«المُتوكل» الذي طغى في البلاد!!
الثلاثاء, 24 مايو, 2016 - 04:09 مساءً

بخروج الأتراك من اليمن، منتصف القرن الـ «11» الهجري، صار «اليمن الأسفل» ميراثاً سهلاً لـ «الدولة القاسمية»، لتدخل «الزيدية» دولة، ومذهب، مرحلة اختبار حقيقي، في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوي الفقهاء حول ذلك تراوح مكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب «المتوكل» إسماعيل، صنع الأخير بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيش القبائل المتعطشة للفيد جنوباً، مؤسساً بذلك اسوأ احتلال عرفته تلك المناطق، على مدى تاريخها.
 
قاد القاسم بن محمد، مؤسس «الدولة القاسمية»، مقاومة عنيفة ضد الأتراك، بعد أكثر من «7» عقود من تواجدهم الأول في اليمن، مُستغلاً ركونهم للاستقرار، وتقليصهم لعدد قواتهم، ليعلن مع مطلع العام «1006هـ»، من جبل «قارة»، بنفسه إماماً، مسنوداً بعدد من القبائل المتُحفزة، وتلقب بـ «المنصور».
 
بِسرعة خاطفة سيطر على أغلب مناطق «اليمن الأعلى»، وبسرعة خاطفة خسرها، بعد أن تم إسناد الوالي العثماني حسن باشا، بالمال والرجال، صد الأخير توغلاته، وحصره وأنصاره في حصن «شهارة»، لينجح «المنصور» في العام «1016هـ» بالهروب متخفياً، تاركاً ولده «محمد» مكانه، لم يصمد «الابن» كثيراً، فخرج طالباً الأمان.
 
أما «الأب» فقد ذهب وجماعة من أصحابه إلى منطقة منقطعة، حتى انقطعت أخباره، لم يمض وقت طويل، حتى ظهر واستعاد مكانته الدينية والقبلية، دارت حروب كثيرة بينه وبين الأتراك، نجحوا في أسر ولده «الحسن»، ساوموه بالإفراج عنه، مقابل انسحابه من المناطق التي استولى عليها، رفض مطلبهم، فشلوا في تحقيق أي نصر عليه، فاعترفوا بسلطاته على مناطق شمال الشمال.
 
توفى «المنصور» مُنتصف العام «1029هـ»، خلفه ولده «محمد»، وتلقب بـ «المؤيد»، وفي العام التالي، هرب الأمير الأسير من سجنه بصنعاء، وفي العام الذي يليه، عمَّ القحط البلاد، تجددت المواجهات، وجُددت المصالحة، لم تدم طويلاً، نقضها «المؤيد» مطلع العام «1036هـ»، حقق انتصارات خاطفة وسريعة، تجسدت بعد عامين، بدخول قواته «إب، ثم صنعاء، ثم تعز»، بقيادة أخواه «الحسن» و«الحسين»، لينتهي التواجد التُركي الأول، بخروجهم من تهامة نهاية العام «1046هـ».
 
الصراع «القاسمي ـ القاسمي» أبتدأ منتصف العام «1049هـ»، بتمرد أحمد بن الحسن، على عمه «المؤيد»، اعتراضاً على عدم إحلاله مكان أبيه المتوفي، ناصرته بعض القبائل، دارت مواجهات محدودة، كلفت الجانبين عشرات الضحاياً، تم الصلح، فكان للأمير المُتمرد خيار الذهاب إلى «الغراس»، ليستقر في حصن «ذي مرمر»، على أوضاع جُعلت بين يديه، فيها كفايته وكفاية أصحابه.
 
مع بداية العام «1051هـ» تجدد ذات الصراع، بعد رفض الأمير الطامح تسليم خزنة أبيه، وجه «المؤيد» عماله بالقبض عليه، هرب إلى «قعطبة»، لحق به العسكر، هزموه، اخذوا الخزنة، أكمل مسيره صوب عدن، أواه صاحبها، الحسين ابن عبد القادر، ثم توجه إلى «يافع»، تزوج منهم، وعاود بهم غاراته على «قعطبة»، نجح «المؤيد» في استمالته، فانتهت القطيعة، وهمد الخلاف.
 
ومن طريف ما يروى، أن أمير «اللحية» النقيب سعيد المجزبي، نجح في تلك الفترة، بأسر حوالي «70» جندياً «برتغالياً»، كانوا يتحرشون بسواحل البحر الأحمر، أرسلهم إلى «شهارة»، عرض «المؤيد» عليهم الإسلام، أسلموا حفاظاً على رقابهم، فوجه بـ «ختانهم» على الفور.
 
توفي «المؤيد»، منتصف العام «1054هـ»، أعلن أخواه «أحمد» من «شهارة»، و«اسماعيل» من «ضوران»، بنفسيهما إمامين منفصلين، تلقب الأول بـ «الداعي»، وتلقب الثاني بـ «المتوكل»، قال المؤرخ «ابن الوزير»، في كتابه «طبق الحلوى»، عن ذلك: «ورجح المتوكل من رجح، لرسوخ قدمه في العلوم سيما الفقه، ورجح أخاه من رجح، لتقدم دعوته، وتوسم أنه أنهض»، كما أعلن ابن أخيهما محمد بن الحسن، بنفسه إماماً على مناطق «اليمن الأسفل».
 
تخلى محمد بن الحسن، عن دعوته، وساند عمه «المتوكل»، ونجح وأخيه «أحمد»، باستقطاب قبائل «خولان» و«الحداء» و«سنحان»، وتوجها بهم لحصار صنعاء، التي كانت حينها تحت قبضة أنصار «الداعي»، ومن «شهارة» عزم الأخير، على التوجه إليها، وحين بلغه نبأ حصارها، غير مساره نحو «ثلا»، لحق به محمد بن الحسن، لتدور معركة وحيدة وفاصلة، هُزم فيها، فخرج طالباً الأمان، مكملاً مسيره إلى «ضوران»، خاضعاً مُبايعاً.
 
توجس «المتوكل» إسماعيل خيفة من طموحات أقاربه، ومن أطماع قبائل الفيد المتوحشة، واستباقاً لأي طارئ، قد يعترض مسار إمامته، وجه جيشه القبلي المُنتشي بالنصر صوب عدن، وجعل عليه ابن أخيه الأمير الطامح أحمد بن الحسن، لم تكن الجولة الأولى للحرب لصالح الأخير، خسر مئات الأفراد، حتى أفرد لهم صاحب «عدن وأبين»، الحسين بن عبد القادر، مقبرة كبيرة، احتوتهم، وسميت باسمه.
 
كانت الجولة الثانية من الحرب، لصالح «ابن الحسن»، أقتحم عدن، وضمها لإقطاعيات «الدولة القاسمية»، وعاد إلى الحضرة الإمامية مزهواً بالنصر، بعد أن جعل عليها من ينوب عنه، أما صاحبها وصاحبه، من أواه بالأمس، فقد «لجأ إلى يافع، بعد أن علم أن ليس له عاصم ولا نافع».
 
خطب بدر بن عمر الكثيري «صاحب حضرموت، والشحر، وظفار» لـ «المتوكل» إسماعيل، مطلع العام «1064هـ»، وأشيع حينها أنه أصبح «زيدي» المذهب، الأمر الذي ألب عليه كبراء دولته، قبضوا عليه بمساعدة ابن أخيه بدر بن عبد الله، زجوا به بالسجن، ونصبوا الأخير سلطاناً.
 
في مطلع العام التالي، حشد «المتوكل» زهاء «10,000» مقاتل، لإخضاع المناطق الجنوبية وحضرموت، ممهداً لذلك بمراسلة المشايخ والسلاطين، وحثهم على الانضمام إلى دولته سلماً، أستعد «الهيثمي» و«العولقي» و«الواحدي»، و«الفضلي»، و«هرهره»، و«الكثيري»، للمواجهة، فيما تولى حليفهم حسين الرصاص، شيخ البيضاء، قيادة المقاومة، وتنظيم حشودها، إلا أنهم خذلوه، وتركوه وحيداً، مع أول مواجهة.
 
نجح عساكر «المتوكل» بمساعدة بعض قبائل يافع؛ في تطويق «الرصاص» وقواته، من أكثر من اتجاه، أستبسل الأخير حتى لقي حتفه، مثَّل «المتفيدون» بجثته، ثم حزوا رأسه، وأرسلوه للحضرة الإمامية، حل أخوه «محمد» مكانه، انحاز بأهله وعشيرته وأنصاره إلى البيضاء، مُفسحاً الطريق للعساكر الغازية.
 
كانت «يافع» الوجهة التالية، رفض الشيخ عبدالله هرره الخضوع لـ «الدولة القاسمية»، واحتمى ومن معه بالشواهق العالية، وحين جاءه المدد من حضرموت، بقيادة الشريف سالم بن حسين الحسيني، تقطع له عساكر «المتوكل» في «دثينة»، ولم يكن أمامه حينها من خيار، سوى الاستبسال والمقاومة، على الرغم من قلة العدة، وضعف العتاد.
 
نجح عساكر «المتوكل» في اقتحام جبل «العر»، بوابة يافع الشمالية، بعد أكثر من محاولة فاشلة، فشل أبناء «يافع» في استعادته، بسبب البنادق ورصاصها الذائبة، التي كانت تتلقفهم الواحد تلو الأخر، وما أن علموا بوصول الأمير أحمد بن الحسن، ومعه حشد كبير من القبائل، حتى راعهم المشهد، فأعلنوا استسلامهم، طالبين الأمان، من صهرهم، وحليفهم بالأمس.
 
دخل سلاطين ومشايخ الجنوب، مذلة الخضوع لـ «الدولة القاسمية»، فحق فيهم المثل القائل: «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»، حتى سُلطان حضرموت، أطلق عمه من الحبس، وأعاد الخطبة لـ «المتوكل»، وجه الأخير بإرسال السلطان المفرج عنه إلى «ظفار»، والياً عليها، لتتوحد بذلك اليمن للمرة الخامسة في تاريخها، إلا أن تلك الوحدة تخللها خلال سنواتها الأولى، تمرد في «يافع»، وثورة في «حضرموت»، وتقطع في «أحور»، وانفصال في «ظفار».
 
طرد أبناء «يافع» عاملهم شرف الدين بن المطهر، حافياً؛ وقتلوا بعض أصحابه، أرسل إليهم «المتوكل» ولده «محمد»، بجيش كبير، لتبدأ مع وصوله بحلول العام «1066هـ» حرب عصابات، كلفته الكثير، قاد تمرد «يافع» الشيخان «الناخبي» و«ابن العفيف»، هُزم الأخير، فطلب الأمان، أما «الناخبي» فصمد وقتل عشرات العساكر، جلهم من «آنس»، وحين استسلم طالباً الأمان، قتله أبناء ذات القبيلة غدراً، انتقاماً لقتلاهم.
 
وفي حضرموت، توجه جعفر بن عبدالله الكثيري، نهاية العام «1068هـ»، صوب «ظفار»، بإيعاز من أخيه السُلطان، استولى عليها، وطرد عمه منها، وقتل ابنه، ليرسل إليهم «المتوكل» مع نهاية العام التالي، ابن أخيه، أحمد بن الحسن، بجيش كبير، كادت صحراء مأرب أن تفتك به، فتم تعزيزه بجيش آخر عن طريق «رداع».
 
استبقى أحمد بن الحسن حشد من عساكره في الطريق، لحراستها، وتأمين وصول الإمدادات، وجعل عليهم محمد بن أبي الرجال، أرسل الأخير «20» فرداً إلى «أحور»، طالباً من الأهالي جمالهم، لحمل بعض المؤن، رفضوا، وفتكوا بالعسكر عن آخرهم، توجه إليهم بنفسه، فالحقوه بهم، اسروا من جاء معه، ثم قتلوهم.
 
أجتاح أحمد بن الحسن حضرموت «1070هـ»، بمساعدة شيخ «وادى دوعن»، عبدالله العمودي، وبعض المشايخ الذين راسلهم ورشاهم؛ بمساعدة هذا الأخير، خذل «الحضارم» سلطانهم بدر بن عبدالله، ولم يقاتل معه إلا خواصه، التجأ إلى أخواله بجبل «السناقر»، طلب لنفسه الأمان، فأعطيه، عاد «ابن الحسن»  أدراجه، بعد أن سلم حضرموت لسلطانها «الزيدي»، بدر بن عمر.
 
أما «ظفار»، فقد استولى عليها سلطان عُمان، سلطان بن سيف، وهي سيطرة لم تدم كثيراً، استعادها «الكثيريون» «1073هـ»، فجعل «المتوكل» عليها الحاج عثمان زيد، ثم الشيخ زيد بن خليل «1079هـ»، ليختلف ابن هذا الأخير، مع أهاليها، قتلوا حوالي «20» من أصحابه، فأرسل «المتوكل» عبده الحاج عثمان زيد، والياً عليها، ليتحقق في عهده، انفصال «ظفار» عن «الدولة القاسمية»، على يد أحد قادة «الدولة الكثيرية».
 
نكل «المتوكل» إسماعيل بيهود اليمن أشد تنكيل، وأشيع أنه أفتى بنهب ممتلكاتهم «1077هـ»، كي لا يبيعوها، ويذهبوا إلى فلسطين، وفي ذلك قال «ابن الوزير»: «وتنوقل هذا الكلام، حتى اتصل بكوكبان وشبام، فهتكوا حريم من عندهم من اليهود، وأخذوا ما معهم من الأثاث، والحلى والنقود، ولما صرخ الصارخ بشبام، أن هذا عن أمر الإمام، بادر أهل حاز والغرزة إلى نهب من عندهم».
 
رغم إنكار «المتوكل» لتلك الفتوى في حينه، إلا أنه لم ينتصر لليهود «المنهوبين»، بل ضاعف من عقوبتهم، بذريعة ادعاء أحدهم الزعامة، رغم قتله إياه، وهو لم يفق بعد من سكره، يقول «ابن الوزير»: «وعند ذلك ضاعف الإمام الآداب على اليهود، وأسقط عمائمهم عن الرؤوس، ورفع كبارهم إلى الحبوس»، ليرفع عنهم تلك العقوبات «1080هـ»، بعد أن أسلم بعضهم، ومات أغلبهم من الجوع.
 
كان «المتوكل» إسماعيل شديد التعصب لمذهبه، لديه فتوى شهيرة كفر بها أبناء المناطق الشافعية، أسماها «إرشاد السامع، في جواز أخذ أموال الشوافع»، ألزم فيها «الشوافع» بدفع الجزية، تحت مسميات عديدة، كما ألزمهم بفتوى أخرى، أن يزيدوا في الأذان بـ «حي على خير العمل»؛ وترك الترضي عن الشيخين؛ وحين وصل إليه بعض مشايخ «جبل صبر»، بداية العام «1083هـ»، شاكين من عاملهم راجح الأنسي، أعرض عنهم، وأنتصر للعامل الظالم.
 
يقول «ابن الوزير»: «ولما أعرض عنهم الإمام، لمخامل ظهرت له، تحزبوا على الخلاف، وساعدهم على ذلك أهل الحجرية الأجلاف، فكفوا يد العامل، وأشرعوا أسنة العوامل، وحذفوا حي على خير العمل من الأذان، وقتلوا من العسكر ثلثه، فوجه إليهم الإمام السيد المقدام، صالح عقبات، واعتنى محمد بن أحمد بن الحسن، في إطفاء شرارهم، وقمع أشرارهم».
 
حدثت بـ «ضوران» بعد ذلك، حوالي «30» هزة أرضية، ارتعب الناس، وضنوا قُرب قيام الساعة، وهنا يعترف «ابن الوزير»، أنها انتقام رباني، بسبب الظلم الذي طال سكان «اليمن الأسفل»، ثم عدد تلك المظالم، بقوله: «وكان قد تضاعف على أهل اليمن الأسفل، مطالب غير الزكاة، والعطرة، والكفارة، مثل مطلب الصلاة على المصلي، وغيره، ومطلب التنباق، ومطلب الرباح، ومطلب الرصاص والبارود، ومطلب سفرة الوالي، ومطلب العيد».
 
فتوى التكفير السابق ذكرها، اصدرها «المتوكل» في البدايات الأولى لتوليه الإمامة، راجعه فيها عدد من أقاربه، وفقهاء مذهبه، بعد أن ساءهم الظلم والاعتساف الذي طال بسببها سكان «اليمن الأسفل»، إلا أنه تعصب لرأيه، وأفحمهم بقوله: «أن هذه الأصول معلومة عندنا بأدلتها القطعية، ومدونة في كتب أئمتنا».
 
وأضاف: «المجيرة والمُشبهة كفار، والكفار إذا استولوا على أرض ملكوها، ولو كانت من أراضي المسلمين، ويدخل في حكمهم من والاهم، واعتزى إليهم، ولو كان معتقده يخالف معتقدهم، وأن البلد التي تظهر فيها كلمة الكفر، بغير جوار كفرية، ولو سكنها من لا يعتقد الكفر، ولا يقول بها أهله، فإذا استفتح الإمام شيئا من البلاد التي تحت أيديهم، فله أن يضع عليها ما شاء، سواء كان أهلها ممن هو باق على ذلك المذهب، أم لا».
 
بوفاة «المتوكل» إسماعيل منتصف العام «1087هـ»، دخلت «الدولة القاسمية» نفقاً مظلماً، عمَّت الفوضى البلاد، وعاد الأخوة الأعداء ليختلفوا ويتقاتلوا من جديد، وانحصر صراعهم شمالاً، والأسوأ من ذلك، أن تصرفات «المتوكل» الرعناء، صارت سلوكاً مُريعاً، لازم غالبية الأئمة «المُستبدين» من بعده.
 
           
 
 

التعليقات