من نيقية إلى غروزني
الجمعة, 16 سبتمبر, 2016 - 04:35 مساءً

في عالم يسوده الظلم والاستكبار, أرسل الله نبيه عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل, الذين كانوا يمثلون الأمة المؤمنة الموحدة الفريدة على وجه الأرض في ذلك الزمان, ليصحح الفساد الذي أصاب عقيدتهم ويحررهم من ظلم بعضهم بعضًا ومن ظلم قوى الاستكبار العالمي الممثل بالإمبراطورية الرومانية لهم (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ 43 ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ 44 إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ  45 وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ 46 قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 47 وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ 48 وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 49 وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ 51  فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ 52) آل عمران.
 
عانى نبي الله عيسى من تعنت اليهود وتفرقهم عن دعوته ومن ظلم القوى السياسية المسيطرة واضطهادها منقطع النظير لأتباعه, إلى أن أنهى مهمته بينهم حين توفاه الله إليه: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ 116 مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 117 إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 118) المائدة.
 
تحركت القلة القلية التي آمنت بالمسيح ونشرت الدين في أرجاء الإمبراطورية, ومع أن صوت القوة كان هو الأعلى إلا أن صوت الحق وإن خفت فإنه بقي موجودًا ينتشر بهدوء وينتظر ساعة الانفجار مدللًا على وحدانية لله وإخلاص الدين له.
 
ظل الصراع مستعرًا فلم تنتصر قوة الرومان العظيمة نصرًا حاسمًا على التوحيد الساري بين فئة قليلة من المؤمنين حتى جاء عصر القيصر الخبيث المحنك قسطنطين, الذي تفتق رأسه عن فكرة تدجين المسيحية وجعلها الدين الرسمي للدولة الرومانية. فأفضل مواجهة لقوة النصرانية الحق في ذلك الزمان تبني نصرانية متوافقة مع هوى الرومان الوثني ومثبتة لسلطتهم, فدعا لمجمع كنسي في مدينة نيقية, الهدف منه مناقشة الانقسامات التي طرأت بين النصارى حول طبيعة المسيح بحيث يخرج المجمع بقرارات إيمانية تكون هي الدين الملزم وما خالفها هرطقة وكفرًا.
 
كان الخلاف الرئيسي في المؤتمر يدور حول طبيعة المسيح, هل هو من طبيعة إلهية؟ أم أنه بشر رسول مخلوق؟ وبطبيعة الحال انتصر الاتجاه المؤله للمسيح المتوافق مع وثنية الإمبراطورية والمثبت لسلطتها والحافظ لها من التفرق والدمار, فنتج دين توافقي بين الوثنية وعبادة الله دونما نظر إلى البحث عن الحق وضرورة التزام الإنسان به, بل كل المجريات دارت حول إنشاء تدين يحقق مصالح الإمبراطور والإمبراطورية.
 
زاد الاضطهاد الذي تعرض له أهل الحق إلا أن صوتهم بقي موجودًا خاصة بين البسطاء والفقراء في مصر والشام والعراق, حتى جاء الإسلام فكان انتشاره بين أهل هذه البلاد سهلًا بسيطًا إذ إنه دين الحق القريب منهم المحرر لهم من نير الظلم والاستعباد.
 
وفي زماننا وبين هذه الفتن المتلاحقة حيث نعيش حالة الضعف والتحلل والتفرق كحال بني إسرائيل ساعة ولادة عيسى عليه السلام. لا تزال هذه الأمة تملك الحق الذي تتمسك به طائفة منها ويسعون لمقاومة قوى الاستكبار في العالم وتكالبهم عليها في كل البقاع.
 
يأتينا القيصر بوتين ليستعير عمل جده قسطنطين – إذ يعد نفسه الوارث للإمبراطورية البيزنطية – ويطبقه على المسلمين فيجمع رجالًا من الطبقة العفنة من المؤسسة الدينية المتكلسة ليعيد تعريف مصطلح أهل السنة والجماعة ويقر مبادئ تدجن الإسلام ليتواءم مع تسلطهم في قلة أدب قل نظيرها, إذ يعقد المؤتمر في روسيا الاتحادية في نفس الوقت الذي يقصف طيرانها أهلنا في الشام بكل أنواع الأسلحة ويدمر بلادنا.
 
يريدون اختزال أهل السنة في أهل الانحراف من المتصوفة, يريدون أن يستكملوا عملية تأميم الدين بالرقابة عليه وحذف ما لا يناسبهم منه وليّ أعناق الباقي ليخدم مصالحهم، فينتجون إنسانًا صالحًا بمقاييسهم لا هَمّ له إلا نفسه فيظن أنه سيدخل الجنة في بضعة أذكار يذكرها وفي حضرة يقفز فيها كالسكير, متكلًا على كلام رجال هم أقرب لسدنة المعابد منهم لعلماء الإسلام, تاركًا الدنيا وما فيها من كفاح لإحقاق الحق ورد الباطل, مستكينًا لتجبر مولانا بوتين وشيخ الإسلام جون كيري.
 
إنها عملية استحمار لأمةٍ لم تعدم النبهاء!
 
أين أنتم يا من تدعون التصوف من عمر المختار؟ أين أنتم من الشيخ عبد القادر الجزائري؟ أين أنتم من صقر القوقاز الشيخ شامل الداغستاني؟
 
هل يستوي أن نضعكم معهم في نفس الميزان؟
 
هم متصوفة وأنتم كذلك, لكنهم كانوا أهل حق بينما كنتم سدنة الباطل.
 
هذا مؤتمر ضرارٍ للتفرقة بين المسلمين والصد عن سبيل الله وإطفاء نوره بكلام الأفواه ولا علاقة له بالحق وطلبه, من حضره كانوا كرهبان وأحبار نيقية الذين فصّلوا النصرانية على مقاس قسطنطين.
 
وقبل المؤتمر وبعده, سيبقى الإسلام دين الحق وسيبقى أناس يسلكون الطريق ما دامت السماوات والأرض, شاء من شاء وأبى من أبى.
 
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 107 لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ 108) التوبة.
 
(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 32 هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ 33  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 34) التوبة.

* ساسة بوست

التعليقات