أسر تخلت عن ابنائها المرضى وخدمات رسمية معدومة
هكذا ضاعفت الحرب أعداد المرضى النفسيين وحالات الإكتئاب في اليمن (تحقيق خاص)
- صنعاء - خاص الجمعة, 23 فبراير, 2018 - 08:10 مساءً
هكذا ضاعفت الحرب أعداد المرضى النفسيين وحالات الإكتئاب في اليمن (تحقيق خاص)

[ ارتفعت أعداد المصابين بالامراض النفسية مؤخرا بشكل كبير ]

لم تترك الحرب المستمر في اليمن أحداً من دون أثر بليغ في روحه أو جسده أو ماله، وقد يكون الموت أهون تلك الآثار، كما يقول بعض اليمنيين، فضحايا الحرب في اليمن، ليسوا اولئك الذين سقطوا ضحايا بين قتلى وجرحى، وليسوا ايضا اولئك الذين صاروا ضمن قوائم المشردين او النازحين، بل ان هناك ضحايا آخرون ربما لم تتحدث عنهم الحرب حتى الان، وهم اولئك الذين صاروا مصابين بصدمات نفسية بالغة، وما أكثرهم اليوم في اليمن اليوم، بل ما أكثرها الاسباب التي تكالبت واجتمعت لتقود عشرات الآلاف من الناس الى هذا الواقع المؤلم.

فاليمن تشهد حربا مفتوحة منذ أربعة أعوام، من اتجاهات بينية مختلفة، ففي حين هناك الحرب التي يشنها التحالف العربي في اليمن مستهدفا مليشيا الحوثي، هناك حربا أخرى يقوم بها الحوثيين في عدة محافظات يمنية مع الجيش الوطني التابع للحكومة الشرعية.

ارتفاع نسبة المرضى

طال الأذى النفسي أغلب اليمنيين، وذلك بسبب الحرب المستمرة والاعتقال والقتل بقذيفة او رصاصة طائشة، والخوف على أبنائهم من التجنيد الإجباري الذي فرضته مليشيات الحوثي مؤخرا، إلى جانب انقطاع الراتب منذ أكثر من عام، والامراض التي تتوالى على الناس دون وجود أي وسائل إنقاذ او مساعدة، فالحياة في اليمن باتت بلا أي ضوابط بعد سقوط المنظومة الأخلاقية، وانتشار مافيا الميليشيات التي تسيطر على كل مقدرات ومفاصل البلد.

مؤشرات كثيرة ومعطيات ودلائل، الى جانب حديث الأخصائيين والأطباء، تفيد بارتفاع نسبة المرضى النفسانيين، خصوصا أن اليمنيين صاروا يخضعون لظروف في غاية القسوة.

يقول عارف عبد الله سعيد، في حديثه لـ "الموقع بوست"، أنه خلال الشهر الماضي تفاجأ باتصال أحد اقربائه، ويطلب منه المجيء الى حي هائل بالعاصم صنعاء حيث تقطن أسرة تربطها علاقة به، والاسرة ضمن الأسر التي نزحت مع دخول تعز دائرة الحرب، وفقدت الأسرة رب العائلة في بداية الحرب، في حين مصالحهم وبيوتهم تعرضت للدمار والضرر.

ويتابع عارف: "تفاجأت بقريبي هذا انه مريض نفسيا، ولم أستطيع اتمالك نفسي عندما وصلت للبيت وهو بدون ملابس، وحالته النفسية صفر، حينها قمت باسعافه الى المصحة، والى الان يخضع للعلاج المكلف جدا، ثم لاحقا تفاجأنا بتعرض أم الولد لنفس القصة والمرض، وأصبحنا نعالج اثنين أشخاص في إطار أسرة واحدة تعاني من المرض النفسي".

وأضاف عارف: "مقتل الاب طبعا يعتبر السبب الاول في تعرض هؤلاء للمرض النفسي، اضافة الى فقدانهم مصدر رزقهم وتعرض بيتهم في شارع جمال التي كانوا يعتمدون على ايجاراتها في تدبير حياتهم للقصف".

الفقر سبب رئيسي

يؤكد الطبيب النفسي عبد الله الشرعبي، في حديثه لــ "الموقع بوست" أن السبب الأول للأمراض النفسية هو الفقر، وكلما زاد الفقر والجوع زاد المرض النفسي كالاكتئاب والوسواس القهري والإدمان، فعواقب الجوع وسوء التغذية في السنوات الأولى للحياة تظهر في عدم القدرة على التعلم، وعدم القدرة على النوم، ونتائج كثيرة يصاب بها الكثيرين، خصوصا الأطفال الذين يصابون باضطرابات في السلوك على مدار الحياة".

انعدام الامن واحدة من المشاكل والأسباب في التأثير النفسي على الأطفال وعلى المدنيين بشكل عام بحسب الدكتور الشرعبي، فالصواريخ التي أطلقت وتطلق من قبل طائرات التحالف العربي، أو من قبل الأطراف المتحاربة، وهدمت بيوت ومنازل البعض من اليمنيين ساهمت بشكل كبير في تعرض الكثيرين لمرض نفسي.

صور الأطفال سواء في صعدة أو تعز أو عدن أو غيرها من المناطق اليمنية، والتي تبث على الانترنت وهم تحت الأنقاض، واحدة من العوامل التي عرضت يمنيين لحالات نفسية صعبة ومعقدة.

الطائرات تقتل أحلامهم والمدافع تقض مضاجعهم، والدمار يحيط بهم من كل النواحي،و يهربون من رائحة الموت المنتشرة خارج منازلهم و ملاجئهم ليجدوا صورها على التلفاز أو في الفضاء الالكتروني تلاحقهم في يقظتهم وأحلامهم، وكلها إشكاليات رئيسية على هذا الطريق، وفقا للدكتور الشرعبي.

الاطفال يعانون قلق نفسي دائم

وكشفت دراسة صادرة عن منظمة يمن لإغاثة الأطفال حول الآثار النفسية للحرب على الأطفال، أن 58.2% من الأطفال اليمنيين ممن شملتهم الدراسة ينتابهم الخوف الشديد، فيما يعاني 37% من قلق دائم واضطراب نفسي، وأفادت الدراسة التي استهدفت عينة من الأطفال في محافظات أمانة العاصمة وعدن وتعز وأبين، بأن 36.4% من العائلات أفادوا بأن أطفالهم لا يشعرون بالأمان، و32.7% قالوا إنهم يعانون من مشاكل في النوم بسبب الخوف من أصوات الغارات الجوية ومضادات الطيران.

وبحسب الطبيب النفسي، سليم الخليدي، فإن "نوبات الغضب السريعة والتشنج وردود الأفعال العنيفة تجاه الأحداث اليومية، مثل الضرب الصاروخي، والقصف العشوائي على المدن والأحياء والأسواق، واستخدام السلاح حتى في الخلافات البسيطة، ما بالك في حرب مستمرة منذ ثلاثة أعوام، كل هذا يشير الى حالات نفسية تحدث يوميا".

ويؤكد الخليدي، بان مئات المرضى يعانون اكتئابا حادا، وهذا الاكتئاب يتحول فيما بعد الى سلوك عنفي، حيث تقود البعض حالته النفسية السيئة الى محاولة الانتحار. ويقول إن الأمراض النفسية تتركز في المدن والمناطق التي تشهد، حروبا ونزاعات وأعمال مسلحة مستمرة.

الاعاقات والتجنيد أسباب

عبثا يبحثون عن أمن مفقود وعن فسحة تأمل واكتشاف مفردات الحياة من حولهم، لقد فقد أطفال اليمن نعمة الأمن، ونعمة النوم بهدوء، ونعمة اللعب بطمأنينة والدراسة بفرح.

طفلة في الشهر الثامن من عمرها تتمدد على سرير العلاج وقد بترت يدها، وطفل آخر في سنته الرابعة يبكي لأنه لا يعرف سببا مقنعا لفقده يده وقدمه، وثالث في الصف الخامس الابتدائي فقد عينه ورابع تشوه وجهه، وسادس وسابع صور نراها كل يوم حولنا وعلى شاشة التلفزة العربية والعالمية، ونهاية هذه المعادلة بحسب أخصائيين اعاقات جسدية، و إعاقات عقلية، فالطفل او المواطن الذي فقد عضو من اعضائه وصار معاقا، بدأ يتحول الى مريض نفسيا، وان لم يكن هو يكون والده او أخيه أو أمه.

وقبل فترة وجيزة دقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر في أحدث تقاريرها عن أطفال في اليمن يتعرضون للتعذيب والقتل والتجنيد، فيما تطرق حقوقيون وناشطون يمنيون لمثل هذه القضايا وما يزالون يطلقون تحذيراتهم بين الحين والأخر.

الحرمان من التعليم

يؤكد ناشطون ومهتمون يمنيون بأن الحرمان من التعليم سواء للأطفال او للشباب بشكل عام، أوجد حالات نفسية معقدة، وأصبح الكثير من الشباب يخضعون لحالات نفسية معقدة، الى جانب ذلك الأطفال الذين هم الاخرون يعيشون نزوح وتشرد ووضع نفسي صعب.

يقول الصحفي والناشط الحقوقي اليمني توفيق عبد المجيد لــ "الموقع بوست": "لا اوجع في بلادنا حاليا من مأساة الأطفال الذين وجدوا أنفسهم أمام حرب فتحت عليهم ابواب الويلات، والضغوط النفسية التي افرزتها الحرب، ورسمت معالم بؤس على حياة الكثير من الأطفال وخاصة الذين وقعوا تحت التأثير المباشر لها، كالتجنيد والزج بهم في المعارك أو الذين فقدوا أطرافهم نتيجة القصف المباشر او الالغام التي زرعتها المليشيا في اغلب المحافظات والقرى".

ويضيف توفيق "هناك ايضا من الاطفال من وجد نفسه بسبب الحرب خارج نطاق التعليم، إما لان مدرسته دمرت أو تحولت لثكنة عسكرية، أو لأنه شرد من قريته ومدينته، وهناك بؤس آخر رسمته الحرب على أطفال اليمن الذين تحول معظمهم الى باعه او متسولين على الرصيف، بسبب سوء الاوضاع الاقتصادية لأسرهم، ومن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي سيجد عشرات الحالات من الاطفال وقد تحولوا الى ضحايا بسبب هذه الحرب التي لا يعلمون عنها شيئا سوى انها ارعبتهم".

النزوح سبب للمرض النفسي

الحرمان من التعليم، والنزوح المستمر، والتشرد، والجوع، والحرمان من اللعب، كلها عوامل كثيرة تلعب في التأثير النفسي على اليمنيين. إذ يقول مهتمون ومختصون نفسانيون، بأن هذا التشرد يترك بصماته على الصحة النفسية للشخص وتكيفه السلوكي مع المجتمع، ويصبح محطة مؤلمة من محطات حياته يصعب على الذاكرة تجاوزها بسهولة، كما يصعب عليه في المستقبل أن يتناسى آثارها لأنها ولطول فترتها ستصبح جزءا من سيرة حياة مرة.

انتظار سيف استاذة علم النفس، في جامعة صنعاء لخصت في حديثها لـ "الموقع بوست"، الآثار الحقيقية التي يتعرض لها اليمنيين أثناء الحرب، حيث قالت: "هناك آثار آنية أي أثناء تعرضهم للأذى كالصدمة الناجمة عن مشاهدة حالات الموت، والتشوه للأقارب، والابتعاد عن الناس، والميل للتشاؤم، واليأس وسرعة ضربات القلب والبكاء والاكتئاب و الصراخ أثناء النوم، وهذه الصدمات تصبح خوفا مزمنا (فوبيا) من الأحداث والأشخاص المرافقة للحرب، كصوت الطائرات ورؤية الجنود، هذه الآثار التي قد تشتمل جيلا كاملا يحملون داخلهم هذه الآلام ولو بشكل متفاوت".

ثقافة الخجل والعيب

بحسب الطبيب النفسي، عبد الله الشرعبي، فإن ما يعوق العلاج في اليمن، للمرضى النفسانيين، هو أن الناس لا يحبذون الخوض في تاريخ مرضهم النفسي، بسبب ثقافة الخجل والعيب المترسّخة في الذهنية اليمنية.

ويشير الشرعبي، إلى أن هناك قائمة طويلة لمرضى نفسانيين في اليمن، يعانون الوسواس القهري، لكنهم يرفضون الاعتراف بحقيقة مرضهم، ويعتبرونه حالة عابرة.

ويضيف الطبيب الشرعبي، إذا ما بحثت في كل منطقة من مناطق اليمن، ستجد أمراض نفسانيين يقبعون في البيوت ويخضعون لظروف قاسية، وبالإضافة الى اعتبار هذا المرض عيبا، يأتي التعامل السيء من قبل أفراد الاسرة، ففي الوقت الذي يكون فيه المريض بحاجة الى علاج نفسي ومعنوي، يتعرض لمعاملة سيئة، واحتقار و استنقاص.

شوارع المدن بيئة للمرضى النفسانيين

ويطلق المجتمع اليمني على بعض المرضى النفسيين اسم "مجنون"، في دلالة على نظرة دونية لهم، وغالبا ما يهمّشه المجتمع، ولا تعبأ له العائلة بعدما عجزت عن علاجه، ولعدم قدرتها على لجم تصرفاته.

ويهيم مرضى نفسانيون كثر في شوارع وأحياء العاصمة صنعاء ومدن اليمن بشكل عام، وعلى الرغم أن لكثير من هؤلاء المرضى، أسرة وأقرباء، لكنهم اضطروا الى الابتعاد عنهم بعدما فشلت محاولات علاجهم وإبقائهم في المنازل.

وبالإضافة الى رفضهم للعلاج، عادة ما تكون ظروف الأسرة الصعبة، واحدة من الأسباب في التخلي عنهم، خصوصا في الوقت الراهن، في ظل حرب وانقطاع الراتب وغياب فرص العمل، وهي الظروف التي فاقمت من أوضاع المرضى النفسانيين، بل فاقمت أعدادهم.

وما زالت المصحات النفسية في غالبية مدن اليمن غير فعالة، وتحتاج توسعا في أعمالها من الناحية المادية ومن ناحية سبل ووسائل العمل.

غياب الجهات المختصة

يغيب دور وزارة الصحة اليوم في اليمن عن تقديم الخدمات الصحية والطبية، مثل غالبية القطاعات المختلفة، ومن هذه القطاعات قطاع المرض النفسي.

مصادر في وزارة الصحة أكدت لـ "الموقع بوست" بأن وزارة الصحة قامت قبل ما يقارب عشرة سنوات بإلغاء قسم فيها كان مختص بالأمراض النفسية دون معرفة الأسباب.

واضاف المصدر بان الوزارة حولت القسم الى ما يشبه قسم صغير مكون من غرفتين ويتواجد في مبنى واحدة من الهيئات التابعة لوزارة الصحة، والذي يضم اقسام صغيرة كقسم مرضى الايدز، وغيرها من الاقسام الاخرى التي لم تعرها وزارة الصحة أي اهتمام.

ويشير المصدر، الى أن وزارة الصحة في الأساس لم تهتم بهذه الشريحة من المرضى، وعادة ما يوكل أمرهم إلى السجون المركزية والتي فيها تتواجد أقسام تحت مسمى مصحات نفسية، وهذه المصحات عبارة عن سجون لا أقل ولا أكثر.

ويقدر أطباء مختصين في الشأن النفسي، عدد المرضى النفسانيين بنصف مليون مريض نفسي الى ما قبل ثمانية أعوام من الآن، في حين تغيب أي احصائيات رسمية عن عدد المرضى في هذا المجال، ولكن الاطباء يؤكدون بأن يكون هذا الرقم قد تضاعف مرات، خصوصا في فترة الحرب التي يمر عليها أكثر من ثلاثة أعوام.
 


التعليقات