بين مرونة الإسلاميين وجمود العلمانيين
الإثنين, 13 مارس, 2017 - 10:26 مساءً

 
تشكّل قضايا الدين والسياسة أبرز محاور الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين منذ سنوات عديدة، واستهلك هذا الصراع جهود الطرفين بدون أن يصلا إلى نتائج ملموسة تسهم في تقليص الفجوة بينهما، وتساعد على تجاوز الأزمات المتعلقة بنظام الحكم والهوية ودور الدين في التشريع والحياة العامة في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي.
 
على أن اللافت في هذا الصراع، أن العلمانيين دائمًا يتهمون الإسلاميين بالتطرف والجمود، وهي التهمة التي لم تتغير منذ ظهور التيّارات العلمانية في العالم العربي وحتى يومنا هذا. وإذا استثنينا "التطرف" كحالة عامة موجودة في كل تيار وفي كل زمان ومكان، سنجد أن الإسلاميين هم الأكثر مرونة، وأن العلمانيين -خاصة العلمانيين العرب- هم أكثر التيّارات جمودًا، وأكثرها تطرّفًا أيضًا.
 
مرونة الإسلاميين

تنبع مرونة الإسلاميين، باستثناء الجماعات الجهادية، من مرونة الشريعة الإسلامية ذاتها. فالله سبحانه وتعالي يقول في كتابه الكريم " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ "، ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى " مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ "، ويقول سبحانه وتعالى أيضًا " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا "، ويقول سبحانه وتعالى " يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا "، ويقول سبحانه وتعالى في سورة أخرى " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ".
 
وكذلك كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحث على التيسير، وينهى عن التشدد والغلو. يقول صلى الله عليه وسلم "إن هذا الدين يسر، ولن يشاد أحد الدين إلا غلبه"، وقال "إنما بعثتم ميسرين، ولم تُبعثوا معسرين"، وقال أيضًا "يسروا ولا تعسروا"، وقال لأبي موسى ومعاذ حينما أرسلهما إلى اليمن "يسرا ولا تعسرا، بشرا ولا تنفرا"، وقالت عائشة رضي الله عنها "ما خيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا".
 
كما أن القواعد الفقهية في الشريعة الإسلامية تتسم بالمرونة، منها "الضرورات تبيح المحظورات"، و"درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة"، و"ارتكاب أخف الضررين"، و"الضرورة تقدر بقدرها". وكل ما سبق ذكره من القرآن الكريم والسنة النبوية والقواعد الفقهية يؤكد على سماحة الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية في مجال العبادات والطاعات، ويؤكد على وسطية الدين الإسلامي ونهيه عن الغلو والتشدد والتطرف.
 
مرونة الإسلاميين ليست محصورة فقط في مجال الاجتهاد الديني والفتوى وأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما تشمل أيضًا المواقف والتحالفات السياسية، والموقف من الديمقراطية والانتخابات.
وبناءً على ما سبق، يمكن القول إن مرونة الكثير من الحركات والأحزاب الإسلامية بخصوص قضايا الدين والسياسة والمرأة وغيرها، مستمدة من مرونة الشريعة الإسلامية ذاتها. وحتى الفتوى فهي أحيانًا تتغير وفقًا لظروف الزمان والمكان، بفعل مرونة الشريعة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان. وحتى التباين واختلاف وجهات النظر بخصوص الكثير من القضايا بين مختلف الحركات والأحزاب والإسلامية، فإن ذلك ينبع من مرونة الشريعة الإسلامية التي شجعت على مبدأ الاجتهاد، وأن المجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر. ولو كانت الشريعة الإسلامية جامدة ما رأينا ذلك التنوع واختلاف وجهات النظر بين جميع الحركات والأحزاب الإسلامية السياسية.
 
ومرونة الإسلاميين ليست محصورة فقط في مجال الاجتهاد الديني والفتوى وأحكام الشريعة الإسلامية، وإنما تشمل أيضًا المواقف والتحالفات السياسية، والموقف من الديمقراطية والانتخابات، والعلاقة مع الأحزاب العلمانية أو الليبرالية، وأيضًا العلاقة مع الغرب. فمثلًا، كانت حركة الإخوان المسلمين في بداية نشأتها لا تحبذ ممارسة السياسية، ولا تدعو أعضاءها إلى ممارسة العمل السياسي، وكانت تُحرِّم الحزبية، لكنها بعد ذلك لم تعد تُحرِّم الحزبية، وأصبحت من كبار الدعاة للديمقراطية في العالم العربي، ولم تفرض قيودًا على النساء بخصوص مشاركتهن في العملية السياسية.
 
وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الجماعات السلفية، التي كانت تُحرِّم الديمقراطية والأحزاب والانتخابات، وتفتي بعدم جواز الخروج على وليّ الأمر، لكنها بعد ذلك -أقصد بعضها- شاركت في ثورات الربيع العربي، وأسست أحزابًا سياسية، وشاركت في الانتخابات والبرلمانات. كما أن مواقف مختلف الحركات والأحزاب السياسية الإسلامية من مختلف القضايا، كالمرأة والفن، مرت بمراحل مختلفة من الانغلاق والتشدد إلى الانفتاح والمرونة. وحتى بعض الحركات الجهادية، مثل جماعة الجهاد المصرية، قامت بمراجعات فكرية أفضت إلى تخليها عن العنف.
 
جمود العلمانيين
 
أما العلمانيون العرب، فإذا تأملنا في مواقفهم المختلفة إزاء الدين الإسلامي والحركات والأحزاب الإسلامية، وتاريخ العرب وحضارتهم ولغتهم، ومواقفهم السياسية من المختلفين معهم فكريًا، سنجد أن كل مواقفهم تتسم بالجمود والتطرف، أي على العكس من الإسلاميين. فمن ناحية الموقف من الدين، نجد أن العلمانيين ما زالوا على عقدتهم من الدين الإسلامي منذ أكثر من خمسين سنة، ويطالبون بتطبيق العلمانية في العالم العربي، وإزاحة الدين جانبًا، وأيضًا إزاحة أي حركة أو حزب إسلامي، ومنعه من العمل السياسي.
 
إن العلمانيين العرب ما زالوا على تصنيفهم القديم للأحزاب والتيارات المختلفة في العالم العربي، وذلك بسبب جمودهم وتزمتهم، فهم يرون أنفسهم بأنهم نخب مثقفة ومتعلمة ومنفتحة، وأن غيرهم جهلة يكرسون التخلف والخرافات.
 
موقف العلمانيين المتزمت والمتطرف من الدين الإسلامي، يأتي لاعتقادهم بأنه سبب تخلف الأمة العربية، وسبب الفساد والاستبداد والديكتاتورية، وأن العلمانية هي الحل لما سبق ذكره، أي أنهم -كما يقول محمد عمارة- استوردوا مشكلة أوروبية من أجل أن يستوردوا حلًا أوروبيًا.
 
ورغم أن بعض البلدان العربية حكمها علمانيون، وقدموا نماذج سيئة في الإدارة، ومارسوا الفساد والاستبداد والديكتاتورية أسوأ من حكام بلدان عربية أخرى غير علمانيين، ورغم أن الحكام العلمانيين لم يحققوا أي نهضة في ظل الحكم العلماني، إلا أن النخب العلمانية -بسبب تزمتها وجمودها وتطرفها- تتعامى عن ذلك، ولا تريد الاعتراف بأساس المشكلة، وما زالت مُصرّة على أن الدين الإسلامي هو سبب فشل العرب وسبب نكباتهم واستبداد حكامهم. والأسوأ من كل ذلك، أن العلمانيين العرب يؤيدون الانقلابات العسكرية وحكم العسكر إذا كانت الديمقراطية ستأتي بخصومهم إلى السلطة.
 
كما أن العلمانيين العرب ما زالوا على تصنيفهم القديم للأحزاب والتيارات المختلفة في العالم العربي، وذلك بسبب جمودهم وتزمتهم، فهم يرون أنفسهم بأنهم نخب مثقفة ومتعلمة ومنفتحة، وأن غيرهم جهلة يكرسون التخلف والخرافات، بل ويتهمونهم بتسميم العقول ونشر الإرهاب والجمود وعدم الانفتاح. وعند المقارنة بين ثقافة الإسلاميين وثقافة العلمانيين، سنجد أن ثقافة الإسلاميين نابعة من تاريخ وهوية وثقافة وعقيدة الأمة، فيما ثقافة العلمانيين هي ثقافة مستوردة من الغرب، ولا تتناسب في أغلب الأحيان مع ثقافة وعقيدة وهوية الأمة العربية.
 
أضف إلى ذلك أن العلمانيين فشلوا في إنتاج فكر جديد يتناسب مع خصوصية العرب، وقادرون على تصديره للعالم، فكل الاتجاهات والنظريات في السياسة والاقتصاد، والتي يرددها العلمانيون، هي من إنتاج الغرب، وليست من إنتاج العلمانيين العرب. ولعل هذه النقطة -تحديدًا- هي التي تفسر مرونة الإسلاميين وجمود العلمانيين، ذلك أن الإسلاميين يستمدون ثقافتهم وفكرهم من عقيدتهم وتراثهم وتاريخهم، ولذلك فهم قادرون على التعامل بمرونة مع الواقع الذي يعيشونه، كونهم يتحركون بحرية داخل المساحة التي يعملون فيها.
 
أما العلمانيون، وبما أنهم استوردوا قوالب فكرية وثقافية جاهزة ومعلبة من الغرب، فإنهم غير قادرين على تعديلها لتتناسب مع واقع العرب والمسلمين، لأنهم في حال عدلوها ستفقد الفكرة التي استوردوها بريقها بالنسبة لهم، وسيرون أنفسهم مجبرين على التعامل مع الواقع الذي يعيشون فيه بحسب ثقافته وعقيدته وتاريخه، ولذلك، فضلوا البقاء داخل إطار الثقافة والأفكار المستوردة والمعلبة، وهذا هو سبب تزمتهم وتطرفهم وجمودهم.
 
 * مدونات الجزيرة

التعليقات