د. مروان الغفوري

د. مروان الغفوري

طبيب يمني مقين في ألمانيا

كل الكتابات
عن صديقي رمضان
السبت, 24 يونيو, 2017 - 10:07 مساءً

مثل باقي الشهور، لولا أنه بلا قهوة. للسنة السادسة أفطر تمام السادسة مساء، وهي تعادل وقت صلاة العصر هنا في ألمانيا. للدين مؤسسات ورجال، ورغم تطور الآلة والخيال لم يكتشف رجال الدين شيئاً جديداً، وبقيت المؤسسة على هيئة مكان. ما من فقه جديد، هناك فقط فقهاء جدد. فقد اكتفوا بإعادة إنتاج الماضي، كل الماضي، بما فيه الآداب السلطانية، وفقه الحاكم. أما شيخ الإسلام، وأجدر الناس بالتبجيل، فهو من يحفظ كلام الأولين أكثر من غيره، ومن له القدرة المحكمة على حجب الكلام الجديد!
 
في المواقف الحادة كشفت المؤسسة الدينية عن عقليتها المحدودة والمتواضعة، كما شاهدنا الأزهر في مصر، وهيئة كبار العلماء في السعودية في الأسابيع الأخيرة. الذين يبيعون السياسة يبيعون الدين، والعاجزون عن فهم السياسة هم، بالضرورة، أقل قدرة على الإحاطة بألغاز الدين وفلسفته. الدين أعقد من السياسة، وحبكاته أكثر تشعباً. من يرتجف أمام عسكر الوالي لا يستحق أن يكون أميناً على الأخلاق. وليس الدين، في نهاية المطاف، سوى دالة أخلاقية.
 
أجدني مرتاحاً لما أقوم به، وأزعم أني رجل يؤمن بوجود الإله، بوصفه السبب غير المسبب، ولصعوبة إثبات عكس ذلك معملياً. إيماني بالإله مختلط بشك عميق، وأزعم أن الإله يقدر الشك أكثر من اليقين. وتلك مسألة غير العبادة، فالإيمان ليس تمريناً جسدياً. هو محاولة لاكتشاف المادي غير المادي، أو ملامسة اللامرئي في أكثر صوره الشعشعانية جلالاً.
 
عملت طيلة هذا الشهر، وكالعادة أكون في المشفى السابعة صباحاً. قبل يومين: بعد انتهائي من عملية تداخلية لفتح شريان الفخذ اليسرى لمريضة ألمانية، تحدثت إلى المريضة، وشرحت لها، من خلال الصورة، ما قمتُ به. قالت السيدة الألمانية: أشكرك، أنا فنانة، أعمل حالياً على إنجاز كتاب بعنوان "الحياة بشكل عام"، سأكتب هذه التجربة، وسأروي هذه القصة. مازحتها "أنا أيضاً كاتب، سأرويها من جهتي". سألتني "ما نوع الكتابة التي تؤديها" فقلتُ: الحياة، الحياة بشكل عام.
 
أعيش، عملياً، في عزلة. فلا توجد حياة اجتماعية خارج هيلين وساره، ويأخذ المشفى حوالي ٤٥٪ من كل ٢٤ ساعة. تمر أيامٌ طويلة لا أتواصل فيها مع أحد، وقبل عامين فكرت بكتابة مذكرات تحت عنوان "في ألمانيا تركتُ موبايلي صامتاً". فلن يتذكرك أحد. والذين يتذكرونك لن يجدوك.
 
استقبلت رمضان ببهجة. إنه ما بقي لي من طفولتي، قلتُ لساره ياسين وهي تسألني عن سر إيماني المفاجئ. كان رمضان هو طفل القرية القديم. عشنا معاً، هو وأنا، أطفالاً في القرية. ألتقيته هُنا، وأردت أن ألعب معه كما كنا نفعل في تلك الأيام، في الوادي والجبل. تلك الأيام البعيدة تجري في الدم، ولا يمكن خلقها من جديد. "رمضان حق الشفوت، يالله بعُجازي تموت"، كنت أنشد صغيراً.
 
أذهب إلى عملي على الأقدام، فأنا أسكن بالقرب من المشفى. وفي أكثر من صباح كنت أمشي وأغني "رمضان جي له جي له، كسر له فناجيله". يقع المشفى بالقرب من غابة صغيرة، هناك وجدتُ وطناً بديلاً. وعوضاً عن الأصدقاء وجدتُ المرضى، وحرستُ بالصرامة العلمية، في واحد من أكثر التخصصات حساسية وخطراً، عقلي من ظواهر العك واللاتعيين التي تملأ فيس بوك والوسائط الموازية. فليس بالأمر الهين، عملياً وذهنياً، أن تغادر الصرامة العلمية مساء، لتتعامل مع خبر يقول "بن بريك: سنمنع كل من يسيء إلى الإمارات من دخول الجنوب". ما من شيء يتبادر إلى ذهنك أسرع من رواية مزرعة الحيوان، لجورج أورويل. تقفز تلك النعجة البضة إلى مخيلتك، فتراها تمشي في المزرعة بخيلاء ليس له نظير بالرغم من أنها بالكاد تجيد كتابة اسمها.
 
تابعتُ برنامج "عاكس خط" لمحمد الربع، وأسعدني وعيه السياسي. كتبتُ عنه على صفحتي في لحظة سعادة. لكن الرجل سرعان ما ذهب يشيد ببرنامج غاغة، المنقع بالطائفة والطائفية حد الهلاك. تصر قناة "المسيرة" على القول: نقاتل الإرهاب والعملاء.
 
عجزت قناة سهيل عن الإمساك بفكرة بعينها، فسقطت في الفخ. لم يسبق أن وصفت المسيرة خصومها ب"النواصب". الشيء ونقيضه في كل متر مربع، أو الكائن وظله، هذه هي الحتمية اليمنية راهناً. كأنك أمام بيت الأشباح التي زارها ابن الهيثم في جنوب البصرة قبل مئات الأعوام. كان الناس يفرون من الدار، إذ شاهدوا على نحو دائم مخلوقات تمشي بالمقلوب على الجدران. ذهب ابن الهيثم إلى المكان، فاكتشف الظاهرة وأنجز مشروع "الخزانة المظلمة ذات الثقب". كان ثمة ثقب على الحائط، وإذا مر شخص بالقرب منه، من الخارج، تسقط له صورة مقلوبة على الجدران الداخلية للدار. يشبه بلدي حالياً بيت الأشباح، وثمة ثقوب كبيرة في الضمير سرعان ما تقلب الصورة رأساً على عقب. ويبدو الرجل، في الآن نفسه، معتدلاً ومقلوباً.
 
أردت أن أستكمل أجواء رمضان فاخترت بضعة مسلسلات: دكتور فوستر، ومسلسل كازانوفا، وهما بريطانيان. الأخير يعتمد على مذكرات المؤلف الإيطالي كازنوفا "ت1798"، ويلقي بضوء خفيف على الحياة الاجتماعية لأوروبا في القرن الثامن عشر. كذلك مسلسل فيرساي، وهو فرنسي كندي تجاوزت تكلفة إنتاجه ٣٠ مليون يورو، ويدور حول حياة لويس الرابع عشر في قصر فيرساي. شاهدت أيضاً مسلسل نوبل، وهو مسلسل نرويجي عن الحرب في أفغانستان. ومسلسلان آخران: مذكرات ليزي بوردون، وهو عمل أميركي مذهل ومخيف مبني على قصة حقيقية لقاتلة شهيرة عاشت في أميركا نهاية القرن التاسع عاشر، تحمل الاسم ذاته. أيضاً مسلسل ألماني اسمه "التركية للمبتدئين"، وهو مسلسل كوميدي ذكي عن اندماج أسرتين تركية وألمانية معا، وكيف تعبر الفوارق الثقافية العميقة بين الديانتين والمجتمعين عن نفسها. من خلال جسر من الكوميديا استطاع المسلسل المجاورة بين الثقافتين على نحو قابل للاستقرار طويل المدى.
 
وبالموازاة عشتُ مع الكتب. فقد دلتني سابينا بوده، الألمانية، على أنا أوستورف. الكاتبتان تشتغلان على ثيمة غاية في الأهمية: حالة المجتمع الألماني بعد الحرب، وكيف يحاول المجتمع الألماني، خلال سبعين عام، الخروج من الظل الطويل للحرب الكونية الثانية، والإفلات من الصدمة والضمير. تنطلق أنا أوستورف من نصيحة كتبها فرويد في عمله "الطوطم والمحرم": لا يوجد مجتمع قادر على إخفاء تجاربه النفسية الكبيرة عن الأجيال القادمة. تغامر الصحفية يورستوف بحثاً في الطبيعة النفسية لأطفال أطفال الحرب، أو الجيل الثالث، الذين شهدوا الحرب كقصص ومحكيات.
 
أما سابينا بوده، في رباعية كبيرة وموسوعية، فقد استلهمت الجرأة من غونتر غراس، أول من كسر حاجز الصمت حول زمن ما بعد الحرب في روايته الشهيرة "في طريق السرطان، ٢٠٠٢". ترجمت الرواية إلى العربية في ٢٠٠٦ بعنوان: في خطو السرطان، ونشرتها دار الجمل.
 
قرأت هذا الشهر لـ: جورج مينوا، إرينستو سابتو، محمد أراكون، تيري إيغلتون، هاروكي موراكامي، إمبرتو إيكو، جبرا إبراهيم جبرا، فرانسيس فوكاياما "تحديداً عمله العظيم عن الثقة"، هولدرلين، دانتي إليغيري، دور غولد، جان بول سارتر، وآخرين. هناك موضوع آخر اهتممت بقراءة دراسات ومقالات وبيانات عنه: البورنوغرافي.
 
قرأت سورة البقرة، وعثرت مصادفة على الفعل "اهبطوا"، ووجدته يستخدم في سياقين متشابهين بالمعنى ذاته: اهبطوا مصر، كما قيلت لبني إسرائيل. وكذلك "اهبطوا منها" كما قيلت لآدم وحواء، من قبل المصدر نفسه. ولأنهما جاءتا في سياقين متشابهين تماماً، النعمة والنكران/ الخيانة، فمن المرجح، في تقديري، إن الجنة التي عاش فيها آدم كانت على ظهر الأرض. فقد طرد منها كما حدث لبني إسرائيل، وطلب منه أن يهبط إلى أراض أقل نعيماً وأمناً. في السياقين ورد الفعل "اهبطوا"، ولا بد أنه حمل المعنى نفسه. هذا الأمر قد يعني المؤمنين وحسب.
 
العالم يزدحم، ونحن نصبح يوماً وراء الآخر شبيهين ببحار كوليريدج التائه. يمخر البحر، ويرى الماء في كل مكان ولا يجد ماء للشرب. أناس في كل مكان، وبالكاد تجد صديقاً. وأكثر من مرة قلتُ لنفسي: عندما تجد نفسك في الجبهة نفسها إلى جوار إكس وإكس وإكس، فثمة خطأ ما، أو خطب ما. محاطون، كلنا، بهزيمة ثقيلة. لا يوجد أثقل من هزيمة وطنية.
 
أتذكر صحتي النفسية في ٢٠١١، كنت مبتسماً في أسوأ الظروف. نعرفُ أصدقاءنا الذين يمرضون إذا انهزمت منتخباتهم البعيدة، التي لا تعرف عنهم شيئاً. داخل كل منا وجع كبير اسمه البلد. هناك طريق أو طرق لاستعادته، غير أن الأيام تمر وتحيله إلى حلم. جاء رمضان وسيعود ونحن ننتظر غودو. تتنازعني دوافع اكتئابية، وقبل أسبوع فكرت بزيارة طبيب. في ٢٠١١ استعرت عنواناً لروائية رومانية فرنسية "نحن طيور العاصفة القادمة". لكن العواصف التي جاءت منذ ذلك الحين لم تجلب الأمطار، فقد اقتلعت عربات الأعداء وأشجارنا. كنت صحيحاً، نفسياً وعقلياً، ووجدت نفسي وقد صرت شفافاً، قادراً على الحب، والحب، والكتابة، وصرت بائعاً للطمأنينة الواثقة، ومرقت نسوة من خلالي.
 
لم يبق من ثورة ٢٠١١ شيء يذكر. لقد انهارت على نحو شامل، وانهار معها نظام صالح. كانت الأنتي دوت لاختلال مزمن اسمه "نيبوتية صالح". النيبوتيزم هو حكم العائلة، وليس من النادر أن ينزلق النيبوتيزم إلى الكليبتوكراسي، أو حكم اللصوص. وضع ٢٠١١ حداً للطموحات اللامحدودة لنخبة اللصوص، وكانت الكلفة باهضة. فقد وقع الربيع في منطقة توطأت قواها التاريخية، الاجتماعية والعسكرية، على مناهضة أي تحول. أنا الآن مريض، مرضي يحمل الرقم ٢٠١١، وليس نادراً أن تنتابني الأوجاع التي لا يفسرها الطب. إنها مرض ١١ فبراير. سيمر وقت طويل حتى يأتي يوم مشابه. ربما لن يأتي، وسيترك الأمر لثالوث البيئة والتكنولوجيا والسوق ليحدث الانتقالات التاريخية التي يتطلبها الزمن وتشترطها الآلة.
 
في رمضان هذا مارست واحدة من هواياتي الدائمة: الطبخ. ابتكرت أطباقاً نباتية وحيوانية شهية. أنجزت أطباقاً حلوة مثل الهريش بالعسل، المعصوب البيضاني، الكنافة النابلسية إلخ. تعلمت من قناة "ابنة اليمن" على يوتيوب أشياء كثيرة، وجربت كل يوم صنفاً. الأكل اليمني، كالمرأة اليمنية، بسيط وشهي وليس لألغازه قرار.
 
يغادر رمضان، وسيعود. وضعت على كتفي الشهر ، هذه الليلة، أمنية وحيدة:
 
أن يعود في العام القادم ويجدكم جميعاً..

*نقلا عن صفحة الكاتب

التعليقات