مع غازي
الأحد, 31 ديسمبر, 2017 - 05:37 مساءً

ثلاثة أيام قسرية عشتها بعيدا عن الانترنت، لأول مرة منذ سنوات، أحسستُ فيها بأن السجن الحقيقي في الوقت الراهن، هو فصل الانترنت عن حياتك، ستبدو في عزلة تامة، وبعيدا عن العالم الخارجي، وعن الاحداث والتطورات المرتبطة بك، ناهيك عن متابعة قضاياك ومهامك الشخصية والعملية.
 
بالطبع الكتاب هو الملاذ المفضل لمثل هذه الحالات، خلال أيام الانطفاء المستمرة للكهرباء في صنعاء طوال الأعوام الماضية، كانت الكتب الورقية هي الصديق الوفي، والجليس المؤنس، ولا أفضل ولا أمتع من هذا، ليخرجك من وحشة الظلام، وسكون الليل، الى رحاب الفكر والقراءة مع أولئك الذين كتبوا رسالتهم (الكتاب) للأجيال القادمة، كما قال سقراط.
 
من بين كتب عديدة ترافقني منذ سنوات، عدتُ الى كتاب (حياة في الادارة) للدكتور السعودي غازي عبدالرحمن القصيبي، (1940م-2010م)، وهو من أنفس الكتب التي كتبها القصيبي، وقدمها للقارئ السعودي، والقارئ العربي أيضا.
 
الحكاية مع غازي القصيبي بالنسبة لي لم تبدأ مع هذا الكتاب، فقد تعرفتُ عليه من خلال القراءة، عبر كتاب شعري جمعه، اسمه (قصائد أعجبتني) وهو عبارة عن مجموعة قصائد لعدة شعراء عرب، كالمتنبي في قصيدته لسيف الدولة الحمداني، وآحر قلباه ممن قلبه شبم، وقصيدة الأطلال للشاعر المصري، إبراهيم ناجي، وقصيدة لصلاح عبدالصبور، وقصائد أخرى.
 
لقيتُ الكتاب بين مجموعة كنب متفرقة جاء بها أبي في آخر عودة نهائية له من السعودية مطلع تسعينات القرن الماضي، وتمكنت حينها وأنا طفل صغير في الابتدائية من التسلل للشنطة التي كانت تضم تلك الكتب، وإخراج الكتب وقراءته، وحفظت بعض تلك القصائد، وحين مات غازي في العاشر من أغسطس 2010م، كتبت عن شخصيته مقالا مفصلا في صحيفة الناس التي كنت أعمل فيها.
 
وكان الموقف الثاني الذي عرفته عن القصيبي وانا يافعا، قصيدته ذائعة الصيت التي وصف بها الفلسطينيين الذين نفذوا عمليات استشهادية ضد الجنود الإسرائيليين بأنهم شهداء، وكان ذلك اثناء فترة عمله كسفير لبلاده في بريطانيا، وتسببت تلك القصيدة بضجة عالية، مثلما تسبب بها ديوانه الشعري (معركة بلا راية) عندما كان شابا، في ستينات القرن الماضي من دوشة (وفق المعنى الشعبي)، في عهد الملك فيصل، حين وصف بالردة، وتم رفع العديد من الشكاوى ضده للملك، وانتهت بتبرئته.
 
نعود الى الكتاب، يمثل كتاب سنوات في الإدارة، خلاصة وعصارة سنوات الخبرة في المناصب الإدارية التي تولاها القصيبي، والتي بدأت مع حياته المبكرة، حيث تعين في جامعة الملك سعود كمدرس للإدارة، ثم عميدا لكلية التجارة، ثم رئيسا لسكة الحديد التي تربط الرياض بالدمام، ثم وزيرا للصناعة والكهرباء، وهو في سن الخامسة والثلاثين، ثم وزيرا للصحة، ثم سفيرا في البحرين، ثم سفيرا في لندن.
 
كما يمثل الكتاب استعراضا لسيرته الذاتية، منذ ان كان مع والده رجل الاعمال الشهير، الذي كان وكيلا تجاريا للملك عبدالعزيز في البحرين، والتي درس فيها الابتدائية والثانوية، ولم يكن حينها توجد مرحلة اعدادية، ثم انتقاله الى أمريكا لدراسة البكالوريوس في القانون، ثم الماجستير، ثم تحضيره الدكتوراة في بريطانيا.
 
فالكتاب بقدر ما يعد سردا لشخصيته ومواقفه المختلفة في الادارة والتعليم، كأي شخص له ذكريات ومواقف، بقدر ما يكون مؤرخا للمملكة في أهم مرحلة مرت بها، وهي مرحلة ما قبل الطفرة النفطية، وما بعدها.
 
ارتبط القصيبي باليمن بفترة مبكرة، فرغم صغر سنه حينها، حيث كان في العشرينات من العمر، فقد كان أحد الأشخاص الذين تم اختيارهم ضمن الوفد السعودي الى اليمن، أثناء الحرب مع الملكيين، حيث اقتضى الاتفاق في العام 1964م أن ترسل السعودية وفدا الى صنعاء، مثلما مصر ترسل وفدها، كان غازي رجل قانون، ولذلك كان مستشار بعثة بلاده في مجال القانون اثناء تواجدها في صنعاء، ومنح مكافأة مالية مقابل ذلك مبلغ 25 الف ريال سعودي، وهي مبلغ مرتفع قياسا براتبه في الجامعة، والذي كان لا يتعدى 1200 ريال حينها.
 
سافر القصيبي مع الفريق السعودي الى صنعاء، واستقروا في شقة بشارع علي عبدالمغني، قرب القصر الجمهوري، ويحكي ملامح من هذه الرحلة التي تقدم صورة أخرى عن الحرب التي كانت تشهدها اليمن، ونظرة الجانب السعودي لها، لكن كتابه هذا لم يوثق فيه كل شيء، وجمع كل ما شاهده وعايشه من مواقف ووثائق تتعلق بموقف بلاده والموقف المصري من الحرب في اليمن، في كتاب مستقل قدمه لنيل شهادة الدكتوراه في بريطانيا، وعنوانه (Revolution in the Sunnah) ولا أعرف إن كانت هناك نسخة منه باللغة العربية أو لا، وباعتقادي سيكون من أندر الكتب التي تقدم تفسيرا للحرب من وجهة نظر السعودية على الأقل، كون مؤلفه كان على اطلاع بتلك الحرب، ومقربا لدى دوائر القرار الرسمي السعودي.
 
وربما كان لتلك الزيارة التي قام بها الى صنعاء تأثيرها في قصيدته التي قالها عن اليمن، ولا أعرف بالطبع تأريخها، وهي قصيدة تستعرض واقع اليمن، واقتتال اليمنيين، ومن سخرية الاقدار، أن القصيدة التي قيلت عن اليمن في فترة سابقة، لازالت صالحة اليوم في حديها عن اليمن:
 
ألومُ صنعاءَ ... يا بلقيسُ ... أمْ عَدنا ؟!     أم أمـةً ضيعت في أمـسهـا يَزَنا ؟!
ألومُ صنعاء ... ( لو صنعاءُ تسمعـني !    وساكني عدنٍ ... ( لو أرهـفت أُذُنا (
وأمـةً عـجـبــاً ... مـيــلادها يــمـنٌ           كم قـطعتْ يمـناً ... كم مزقـتْ يمنا
ألومُ نفسـيَ ... يا بلقيسُ ... كنت فتى       بفــتـنـة الـوحـدة الحسناء ... مفتتنا
بـنـيـت صـرحـاً مـن الأوهام أسكنه          فـكان قبراً نـتاج الوهم ، لا سكنا
وصـغـتُ مـن وَهَـج الأحلام لي مدناً        والـيـوم لا وهجـاً أرجـو ... ولا مُدُنـا
ألومُ نـفـسيَ ... يا بلقيسُ ... أحسبني        كنتُ الذي باغت الحسناء ... كنتُ أنا !
بلقيسُ ! ... يقـتتل الأقيالُ فانتدبي             إليهم الهـدهد الوفَّى بـما أئـتُـمِـنا
قـولي لهـم : (( أنـتمُ في ناظريّ قذىً        وأنـتمُ معرضٌ في أضلعي ... وضنا ! ))
قولي لهـم : (( يا رجالاً ضيعوا وطـناً     أما من امرأةٍ تسـتنقذ الوطـنا؟! ))
 
كان غازي معروف بجماهيريته وخطفه للأضواء طوال فترة عمله، فقد عمل في مجال الاعلام، حين قدم برنامجا تلفزيونيا، بعنوان "أضواء على الانباء" وأتاح له ذلك شهرة واسعة، وبجانب كونه شاعرا فقد أكسبه ذلك حضورا كبيرا في وجدان السعوديين، وقربه من ملوك وأمراء السعودية الذي ساعدوه كثيرا، ولا يمكن هنا إغفال المهارات القيادية التي كان يتمتع بها، والحس الإداري، والإخلاص في كل المهام التي كانت توكل إليه، وهي مواصفات جدير بأي مسؤول حكومي أن يكون متصفا بها.
 
تعيش مع غازي في كتابه كشاعر وكوزير وكسفير وكمسؤول حكومي، وتحس وتلحظ عظمة هذه الشخصية، وهي تعمل بكل تفان وجدارة لخدمة بلده، مقدما النصائح الإدارية المختلفة من المواقف التي مرت عليه، للجيل الذي لحق به، وهو ما يجعل الكتاب ذو فائدة لكل من يعمل في الإدارة، والعمل الحكومي والخاص، في أي بلد، وفي أي سن، ولو قدر لي أن أملك مئة نسخة منه، لوزعتها على كثير من الزملاء والمسؤولين، وسأبدأ بوزراء حكومتنا الموقرة، ووكلاء الوزارة والسفراء وغيرهم.
 
خاض غازي تجارب مريرة ناجحة، مع العمل الإداري، ودخل في معركة مع البيروقراطية الإدارية التي كانت مهيمنة في المؤسسات السعودية الحكومية حينها، حتى وصفت عمليات التغيير التي كان يقوم بها بالمذابح الإدارية، بسبب التغييرات التي كان يجريها في كل منصب تقلده.
 
ولم يقدم حلولا فقط للمشاكل الإدارية، بل كان صاحب مقترحات لمشاريع لازالت حتى الان، ومن ضمن تلك المشاريع شركة "سابك السعودية، التي قدم تصور عنها، ووضع تسميتها، وكتب لائحتها الداخلية بيده، والتي لازالت قائمة حتى اليوم، وتعد من أضخم الشركات الصناعية الاستثمارية في العالم، وليس في السعودية فقط
 
الكتاب في حد ذاته – كما أسلفت – يوثق لمراحل مختلفة من الدولة السعودية، وسلوك امرائها وملوكها، وكيفية تصرفاتهم مع مختلف الأزمات، وتعايشهم مع مجتمعهم، وهو من الكتب النادرة في هذا الجانب، فالملوك السعوديين وأغلب الامراء لم يكتبوا مذكراتهم ولا سيرهم الذاتية، وتعاملهم مع الاحداث والملفات التي عاصروها، ليسهل على الجيل اللاحق معرفتها، مثلما هو الحال لدى كثير من الرؤساء الغربيين، او العرب على الأقل.
 
ولذلك ظلت السياسية السعودية، غامضة في تفاصيلها، واضحة في معالمها، وقد زرتُ العديد من المكاتب المتخصصة ببيع الكتب في السعودية للعثور على مذكرات توثق لأيا من ملوك السعودية كما هو الحاصل على سبيل المثال مع الشيخ عبدالله الأحمر أو سنان ابولحوم في بلادنا، ولم أعثر إلا على كتب تحتوي على صور للأنشطة والزيارات والرحلات التي كان يقوم بها الملك، وكلما كان الملك أقدم كان الكتاب المصور الخاص به أرخص، وبالتالي ظلت أسرار الملك والعائلة المالكة، وفلسفتها ونظريتها في الحكم، طي الكتمان من ملك لآخر.
 
الكتاب الذي يتوقف في سرده للأحداث عند تعيين غازي سفيرا في لندن، ورغم أنه ينتمي لنمط الكتب الشخصية والمذكرات الحياتية للشخص، لكنه يقدم نظرة شاملة عن العمل الإداري بأسلوب سلس، يجمع بين المعلومة والاستنتاج، والطرافة، من خلال أسلوب سردي ممتع وشيق، وبدون أي فهرس! فقد كتبه كنص واحد من أول كلمة حتى أخر نقطة.
 
إنه يقدم نموذج فريد، للمدير الحريص على النجاح وليس على النقود والفساد، ونموذج حي للوزير الذي يحدث ثورة في وزارته بحثا عن الأفضل، وليس بحثا عن التكسب الغير مشروع، ونموذج للسفير الذي يمثل بلاده بكل اقتدار وأمانة، وليس بحثا عن جاه ونفوذ.
 
لا أدري سر هذا الحماس الكبير بالنسبة لي عن الكتاب والكاتب، قد يكون بسبب عدم العثور على نموذج لمسؤول يمني مشابه، تستطيع أن تؤمن به، وتتحمس لأجله، وتفاخر به، رغم وجود العشرات من أسماء الوزراء اليمنيين الذين تعاقبوا على الوزارات خلال الخمسين عاما الماضية.
 
لذلك أنصح وبشدة من يرتبطون بالعمل الإداري، وأولئك الذين يسعون للنجاح، ومن يرغبون في تطوير أنفسهم باقتناء هذا الكتاب، على الأقل ليعملوا وفق نظرية الشاعر العربي الذي قال: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح.
 
بالطبع لو عاد غازي اليوم الى الحياة، فسيرى سعودية مختلفة في مختلف الأصعدة والسياسات والتوجهات.
 

التعليقات