ماتت معلمتي الأولى
الخميس, 18 يناير, 2018 - 12:02 مساءً

لا يشكل الموت حافزا للكتابة، فاللحظة عادة ما تكون مزيجا من الصدمة والتأثر والحزن والألم، لكنه ايضا يدفع نحو التعبير عن اولئك الأشخاص الذين رحلوا عنك إلى الأبد، وكانت لهم بصمات واضحة في حياتك. وهي نوع من رد الجميل لعيون لن تقرأ ما كتبت، وآذان لن تسمع أيضا ذلك.
 
إنها جدتي من جهة والدي، رحلت بعد أكثر من سبعين عاما، قضت أغلبها في معارك مع الحياة، وفي مواجهة لم يوقفها إلا الموت، وفي رحلة من العمر ربما لم تحصل لغيرها من بنات جيلها.
 
نشأت جدتي يتيمة، فقد توفي والدها وهو محارب قديم مع نظام عصره ومع قبيلته، وتركها صغيرة لدى أعمامها وأخوالها من دون أخ ولا أخت ومن دون أم أيضا.
 
تزوجت بجدي وهو ابن خالتها، وعاشا حياة قاسية متنقلة بين المنزل والأرض والمواشي، وأنجبت له ثلاثة من الاولاد أكبرهم والدي، وأصغرهم مات صغيرا، إضافة لبنتين ماتت احداهما نفاسا تاركة خلفها ولد وبنت، وشكل موتها في حياة جدتي حزنا لا ينسى، وأخرى باقية، وهي من ماتت جدتي في منزلها بصنعاء.
 
بسبب موت والدها قبل جدها كادت أن تحرم من الميراث، فقد ساد عرف لدى الناس ولا أدري من شرع ذلك بأن من مات قبل والده لايرث أولاده شيئا من تركته، إلا إذا وضع له جده ورقة (إقعاد) وهي وثيقة بشهود توصي بأن يرث الحفيد من الميراث مكان أبيه.
كانت جدتي قد يئست من ذلك الميراث، وهو عبارة عن أراضي موزعة داخل القرية، بينما استحوذ أعمامها على كل شيء، وشاء القدر لاحقا أن يبادر أحد أعمامها رحمه الله أن يكشف عن ورقة الاقعاد لجدتي من جدها، مقابل حصوله على شيء من ذلك الميراث، وهو ما تم لاحقا.
 
مع جدي عاشت جدتي حياة قاسية، فجدي رجل يعشق الأرض كثيرا، وطوال سنين حياته وهو يقلب فيها، إما بالتوسعة، او بشؤون الزراعة التي لا تنقطع خاصة في فصل الصيف، أو بمهماته التي لا تنقطع مع الناس، بسبب كونه (عدلا) وهي وظيفة توازي عاقل الحارة بالمدينة، لكنها تختلف عنها في أوجه كثيرة.
 
وما زاد الأمر تعقيدا أن جدتي فقدت سمعها من وقت مبكر، و من يوم أعرف نفسي في الحياة معها وهي لا تسمع جيدا، وسبب لها هذا الكثير من المتاعب، عند تعاملها مع الآخرين، وتعاملها مع جدي بشكل خاص، ومع تقدمها في العمر أصبحت فعلا تعاني بشكل أكبر.
 
وكل محاولات علاجها لاسترداد سمعها باءت بالفشل، وتحولت الحركة عندها الى وسيلة بديلة عن السمع، كانت تمضغ القات مع جدي في مجلسهما لوحدهما، ويدها على مسبحتها، ولا ترى إلا قصبة المداعة تذهب منها إليه ومنه إليها والصمت يلف المكان، وحين ينتهي التتن (التبغ) ويحتاج جدي إلى بوري جديد فلا تشعر الا بالقصبة مرمية أمامها، فتفهم الأمر وتذهب لاعداد بوري جديد.
 
بالنسبة لي فقد كنت أنا حفيدها الأكبر، ورغم ولادتي في بيت جدتي من جهة أمي، لكن جدي من جهة والدي أصر أن أنتقل وأمي الى منزله، ولذلك كانت جدتي الراحلة هي الأم الثانية بالنسبة لي، وحتى عندما ألتحقت بالمدرسة الابتدائية بقيت في بيت جدي، وأخاطبه بأبي، حتى السنة الاولى بالثانوية، ولم أكن أنتقل لبيتنا حيث أبي وأمي الا بزيارات متقطعة من حين لآخر.
 
وبسبب هذا الوضع حظيت بالاهتمام والرعاية من جدتي، ولازلت اتذكر ما كانت تقدمه لي وهي عائدة من الأحوال (مصطلح يطلق على المزارع) وكل يوم تحمل معها شيء، شامة (ذرة شامية) او عكاب (شيء اسود يخرج مع بداية نضج الذرة الرافعة) واحيانا جرادة، كانت تلتقطها وتشويها بالنار وتقدمها لي، وهناك العديد من مثل هذه الأشياء التي يمتاز بها الريف.
 
وأول مرة أسمع قصة نبي الله يوسف ونبي الله عيسى من لسانها، كانت تحكيها كحكاية شعبية بناء على ما سمعته، وكان مصدر معلوماتها هي أشرطة كاسيت لا أدري من أين جلبها جدي، وفي الاشرطة تسمع شخصا يضرب ب (الطار) طبل أو دف يدوي مصنوع من الجلد، ويستخدمه العديد من مشائخ الصوفية الذين يحيون المولد النبوي، من خلال امساكه باليدين، والضرب عليه باليد اليمني والقرع بشكل خفيف باليد اليسرى، وينتج عنه ايقاع مع مختلف القصائد.
 
في تلك الاشرطة كان هناك شخص يسرد قصة يوسف وقصة عيسى وغيرها من القصص بطريقة ملحنة، وكان جدي يسمعها في المناسبات الدينية كرمضان، وذكرى المولد النبوي الشريف، ومن تلك الاشرطة حفظت جدتي تلك القصص، ومن المؤسف أني حين كبرت قمت بإتلاف تلك الاشرطة عن طريق تسجيل مواد جديدة عليها، ما جعل جدي يشعر بالاستياء حتى الآن كلما ذكر ذلك، وليتني لم أفعل.
 
شدتني قصة يوسف وعيسى، خاصة يوسف وهو يتعرض للبلاء والمكائد، وكذلك عيسى الذي خرج إلى الأرض بدون أب، ولازلت أذكر أن جدتي كانت تتهرب من الإجابة عن كيف ولد عيسى وليس له أب، وبالتأكيد ذلك السرد القصصي كان محتويا على أساطير وإضافات لا تمت للقصة الحقيقية بأي علاقة.آ 
 
وكأي جدة حنونة على أحفادها فقد كانت جدتي تقف حائلا بيني وبين جدي إذا غضب وقرر معاقبتي، وذات مرة قررآ  جدي تأديبي على جناية لا أذكرها، فأدخلني بالصباح الى غرفته الخاصة التي كان يستخدمها كمخزن لأوراقه وحاجاته الثمينة كالفلوس والساعات والجنابي والعسل والبن والبطانيات الجديدة وودائع الناس، وكان لتلك الغرفة نافذة صغيرة لا تتعدى الستين سنتيمتر وعرض عشرين سنتيمتر، فأدخلني فيها بالصباح وذهب مع بقية العائلة للعمل، ولم يكن أمامي سوى النوم بعد العبث ببعض المحتويات كالعسل، ولم أصحو الا على صوت جدتي وهي تتوسل لجدي أن يفتح لي الباب، وكان الوقت ظهرا، ففعل و أطلق سراحي، وكان الخروج منها إلى حضن جدتي بالطبع.
 
وكالعادة كانت الغرفة التي تجمع جدي وجدتي عند المنام أكون ثالثهما، (ومن حسن الحظ أن نومي ثقيل) واستيقظت مرة في منتصف الليل وأنا اصيح من وجع في بطني يكاد أن يقتلني، ولم يهدأ الوجع الا عندما جلبت لي جدتي بمساعدة جدي قليل من العسل مخلوط بنقاط مائية من مشروب شعبي إسمه (مكافح الرياح) وهو ذو لون أزرق فاتح، ويستخدمه الناس تلك الأيام لكل مرض باطني ينهش أجسادهم.
 
رافقت جدتي في أسفار كثيرة معظمها كان الى نجوم الطب الشعبي والجن، وأكثرهم زيارة محمد أحمد الجنيد رحمه الله، وزيارت أخرى الى تعز للعلاج عند طبيب باطنية في باب الكبير اسمه محمد بدوي تقريبا، ولكل زيارة بالتأكيد مواقفها وذكرياتها وأثرها.
 
انفصلت عن جدتي بشكل قسري مع إكمالي للثانوية العامة وانتقالي إلى صنعاء لأداء خدمة التجنيد الإجباري أولا ثم الدراسة الجامعية ثانيا ثم العمل ثالثا، وظلت العلاقة قائمة واللقاء متواصلا عند كل زيارة للقرية.
 
وحين غادرت خارج اليمن في الشهر الرابع من 2015م كان الخروج إجباريا لأنفصل قسريا حتى اللحظة عن العائلة بأسرها، وساءت حالة جدتي الصحية وتدهورت، وفي كل إتصال هاتفي مع الأهل هناك كانت جدني تهتف بإسمي وتتمنى عودتي، وتأمل أن تراني أمامها.
 
لكن الأقدار كانت أقسى، فلم أستطع أن أعود، وكان الأمل كبير بتحسن الوضع في اليمن والعودة إليها، غير أن الموت كان أسرع فخطف روح جدتي، لتموت وهي تتمنى رؤية أكبر أحفادها وإخوانه الآخرين، وتذهب إلى بارئها بمشاعر شوق متدفقة دفنت في جوفها تحت التراب.
 
كانت تتمنى أن تموت في قريتها، وأختارت لنفسها قبرا في أحد الأماكن بالقرية، وتم حفره بالفعل، وأوصت بذلك قبل أن تموت، لكن الموت فاجأها وهي في صنعاء، وكان من الصعب السفر بجثمانها الطاهر الى القرية نتيجة الوضع الراهن، فدفنت بإحدى مقابر صنعاء.
 
رحلت جدتي تاركة خلفها سيرة من الألم والفرح والحزن والشدة والرخاء، وغادرت الحياة راضية بقدرها، بينما كان موتها علينا حسرتين، حسرة لفراقها، وحسرة لغربتنا القسرية التي أبعدتنا عنها.
 
لا أعتقد أني سأنسى هذا الموقف أو سأكون متسامحا وراضيا عن من كان السبب في هذا الأمر، ولا أظنكم ايضا ستسامحونه.

التعليقات