اليمن .. واحدية الأرض والإنسان 2-3
الإثنين, 22 مايو, 2017 - 08:24 صباحاً

لا تضجعوني في موتي يضجع ملككم، بل ادفنوني قائماً فلا يزال ملككم قائما، كانت هذه وصية الملك الحميري المعافر بن يعفر بن السكسك بن وائل بن حمير الأصغر لأبنائه وقومه قبل موته، في الحلقة السابقة من الحديث عن واحدية الأرض اليمانية وإنسانها القحطاني أنخْنا راحلة المجد السبئي القحطاني عند بدء عصر الملوك التبابعة، هذا العصر الذي ملأ الدنيا شموخا وعِزّاً وصال ملوكه شرقا وغربا بحوافر خيولهم وحدّ سيوفهم ولم يحُل بينهم وبين مراميهم امتداد البحار ولا شواهق الجبال، وفي القرن الخامس عشر قبل الميلاد كانت البداية لحكم الملوك التبابعة ، وكان الملك التُبّع الحارث الرائش الحمْيَري المؤسس للعصر الأول وقد حكم اليمن وصولاً إلى ظفار عُمان.
 
يذكر المؤرخون أن عدد ملوك هذا العصر بلغ 7 ملوك تبابعة منهم الملك المؤسس الحارث الرائش ثم نجله تبّع شمّر الرائد الذي اعتبره المؤرخون "تبّع الأكبر" وفيه قال قس بن ساعدة:
 
لا تأمننْ مكر الزمان فإنه ... أودى الزمان بشمّر الصياحِ
 
من بعد مُلْك الصين أصبح هالكاَ... أكرِمْ به من فاتح مُجتاحِ
 
تلاهما التبّع الصعب ذي القرنين بن تبّع شمّر الرائد وقد ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة الكهف بقوله تعالى"قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذّب وإما أن تتخذ فيهم حُسنا"، وقد ذهب المفسرون بقوله تعالى"إنا مكّنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا" أن المعني بالتمكين في هذه الآية هو التّبع ذي القرنين الحميري، وهذه دلالة واضحة على أن مُلكه تجاوز اليمن التاريخية وبلغ الآفاق البعيدة، وقد امتد حكمهم لليمن ما يقرب من 250 عاما حتى العام 1221 قبل الميلاد.
 
في العصر الثاني والثالث من مُلك التبابعة الذي بدأ في العام 1100 قبل الميلاد وانتهى في العام 835 قبل الميلاد ظلّت اليمن محكومة تحت سلطة واحدة موحدة، وكان لقب ملوكها "ملك سبأ وذي ريدان"، ومن أشهر ملوك تلك الحقبة كانت الملكة بلقيس بنت إليشرح بن شرحبيل بن مالك بن حمير الأصغر، ويشير المؤرخون أنها كانت تحكم اليمن والحبشة إذ يقول المؤرخ الألماني فورك في هذا الجزئية " كانت بلقيس ملكة جنوب الجزيرة العربية تحكم العربية السعيدة وإقليم الحبشة، وقد تمكن السبئيون واقرباؤهم الحميريون منذ أقدم العصور من مد سلطتهم إلى هضبة الحبشة وحكموها لقرون طويلة".
 
 وهنا يجب الإشارة إلى نقطة هامة قد يقع فيها القارئ سهوا في قراءته عن لقب "ملك سبأ وذي ريدان" وهي أن اليمن منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد وحتى العقد الثالث من القرن التاسع قبل الميلاد أي في العصور الثلاثة الأولى لحكم التبابعة كانت مقسّمة إداريا إلى إقليمين، هما إقليم سبأ واقليم ذي ريدان، وكانت حضرموت ويُمانت منضوية تحت اقليم ذي ريدان"حمْيَر" ولذلك كان يُطلق على الملك لقب" ملك سبأ وذي ريدان" في إطار حكم الدولة المركزية.
 
استهل الملك الهُمام شمر يُهرعش بن ياسر يُهنعم العصر الرابع من حكم الملوك التبابعة في العام 834 قبل الميلاد، وكان ملكا عظيما دانت له الدنيا وطوّع بسيفه الأرض بحرها واليابسة، وفي هذا العصر كان يُطلق على الملك لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويُمانت" وهنا يقول المؤرخ ابن خلدون عن حكم التبابعة لليمن الموحدة " التبابعة ملوك اليمن ولم يكن يطلق إسم تّبع على الملك إلا إذا حكم سبأ وحمير"ذي ريدان" وحضرموت ويُمانت وهي الشِّحرُ والمهرة".
 
وعن هذا اللقب يقول المؤرخ محمد حسين الفرح "هذا اللقب هو كناية عن التقسيم الإداري للدولة السبئية التي قسّمها الملك شمر يهرعش إلى أربعة أقسام تحت حكم الدولة المركزية "سبأ" وأن الأصل في اللقب هو "سبأ" ولذلك يتم ذكره في أول اللقب المذكور آنفاً".
 
وقد تم ذكر الملك العظيم التبّع شمر يهرعش في نقوش المسند السبئية التي تم تدوين مآثر حضارة سبأ وحمير من خلالها وبلغ عدد النقوش التي أُشير إليه فيها أكثر من 36 نقشا سبئيا، وهذا العدد الهائل من النقوش يبيّن مقدار عظمة هذا الملك وسموّه، وقد انتهى حكم ملوك وتبابعة العصر الرابع في العام 701 قبل الميلاد وبلغ عدد ملوكه تسعة ملوك.
 
العصر الخامس من عصور حكم الملوك التبابعة كان آخر عصور الزهو والشموخ السبئي الحمْيَري التبّعي، حيث بدأ في بداية القرن السابع قبل الميلاد وانتهى في العام 520 قبل الميلاد مع انهيار سد مأرب، وقد أضيف إلى لقب الملك التبع "أعراب الطود وتهامت" وأصبح الملك يلقب بــ "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويُمانت وأعراب الطود وتهامت" ومن أشهر ملوك هذا العصر كان الملك ذائع الصيت التبُع أبو كرب أسعد الكامل الذي قصده الله بقوله تعالى "أهم خيرٌ أم قوم تبّع"؟ وبلغ عدد الملوك التبابعة في العصور الخمسة سبعون تبّعا وفي هذا الصدد يقول النعمان بن بشير الأنصاري:
 
لنا من بني قحطان سبعون تبّعاً .. أطاعت لها بالخرج منها الأعاجم
 
وبعد هذا التاريخ الباذخ شموخا وحضارةً وحُكْماً الذي بلغ مطلع الشمس ومغربها، انهار سد مأرب العظيم وكان ذلك في العام 520 قبل الميلاد ومعه انهارت عصور الملوك التبابعة وتفرقت على إثره أيدي سبأ وضعُف حكمهم لليمن وهاجر منهم من هاجر إلى بلدان كثيرة مما أدى إلى تشكُّل عدة دويلات وتحولت اليمن من مملكة قوية واحدة إلى خمس دويلات صغيرة، إلا أنه في العام 455 قبل الميلاد استعاد المُلك الملك التبع كرب إيل وتر الذي لمّ شمل اليمن وحكمها من جديد، وحكم من بعده ملكين لكنهما فشلا في الحفاظ على الحكم، وعاد حكم الدويلات التي ظلت متفرقة ردحا من الزمن، وعلى الرغم من تفرقها بقيت متناغمة فيما بينها تشدها روابط الأصل الواحد والتاريخ الواحد والأمة الواحدة وكانت الدويلات المتشكلة هي:
 
1-دولة معين  السبئية
 
2- دولة قتبان الحميرية
 
3- دولة أوسان الحميرية
 
4- دولة مكارب سبأ
 
5- مملكة حضرموت ودولة بني معاهر الحميرية
 
وقد استمرت هذه الدويلات حتى نهاية القرن الثالث بعد الميلاد وبلغ عدد الملوك الذين تناوبوا على حكمها ما يقرب المائة ملكا لكنهم لم يكونوا تبابعة كونهم لم يحكموا اليمن كلها.
 
مع بداية الربع الرابع من القرن الثالث الميلادي استعاد ملوك حمير مجدهم من جديد بزعامة الملك ملشان أريم فوحدوا الدويلات السالفة الذكر تحت مسمى مملكة حمْيَر وتناوب حكمها عدد من الملوك كان آخرهم الملك ذو نواس الحميري الذي فقد سلطته مع الغزو الحبشي لليمن في العام 533م إلا أن الاحتلال الأكسومي لم يدم طويلا واستعاد المَلك سيف بن ذي يزن اليمن من براثن احتلالهم عام 572م  وحكم اليمن مع أخيه وإبنه حتى العام 595م وآل الحكم بعدهم للفرس المحتلين حتى بزوغ فجر الإسلام ودخول اليمن تحت حكم الخلافة الاسلامية. 
 
هي اليمن إذن، اليمن الأمة الواحدة بإنسانها وتاريخها وحضارتها الممتدة لأكثر من تسعة آلآف عام،  اليمن التي حكمها الملوك التبابعة الأولون وبسطوا نفوذهم على ترابها من شرقها إلى غربها ولمّوا شمل إنسانها من حضرموت الأكبر إلى حضرموت الأصغر ومن سبأ بن يشجب إلى سبأ بن وائل ومن حمير الأكبر إلى حمير الصوار ومن كهلان إلى مذْحِج.
 
يتبع...
 
المراجع:
 
الجديد في تاريخ دولة وحضارة سبأ وحمير، محمد حسين الفرح
 
نقوش مسندية وتعليقات، مطهر الإرياني
 
في صفة بلاد اليمن عبر العصور، حسين العمري، مطهر الإرياني، يوسف محمد عبدالله
تاريخ اليمن القديم ، محمد بافقيه
 
خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة، نشوان الحميري
 
الإكليل، الحسن بن أحمد الهمداني
 
تاريخ ابن خلدون ج 2، ابن خلدون

 

التعليقات