"في تلك الليلة .. أنا والانقلاب"
السبت, 15 يوليو, 2017 - 10:29 صباحاً

في انقلاب 1997 على الراحل أربكان (سمي انقلاباً أبيض) كنت قد قدمت حديثاً إلى تركيا، لا أعرف اللغة ولا أتابع الأخبار، ولا أذكر كيف عايشت تلك الفترة أو اهتممت بها. لكن ليلة الانقلاب الفاشل العام الفائت كانت أطول وأصعب ليلة لي في تركيا منذ قدمتها عام 1996.

في تلك الليلة، كنت أتناول طعام العشاء مع عائلة زوجتي التي كان يفترض أن تسافر من تركيا للأردن في اليوم التالي. بدأت الأخبار أولاً عن أن "قوة من الجيش أغلقت الجسر" الواصل بين أوروبا وآسيا في إسطنبول وتـُحدِّثُ الناسَ عن "أحكام عرفية". كان ذلك يعني انقلاباً عسكرياً بلا أدنى شك عندي.

أنهينا الجلسة سريعاً دون أن أخبرهما بشيء، وحاولت طوال الطريق أن أخفي الأمر عنهم، لكن وجهي وطريقة حديثي (بالتركية، حتى مع زوجتي وشقيقتها) كانت تشي بالكثير وبأن كارثة ما حصلت، لدرجة أن والدة زوجتي شكت وسألتني: هل حصل تفجير ولا تريد أن تخبرنا، بينما مازحني عمي قائلاً (ومستبعِداً): لعل انقلاباً عسكرياً حدث؟!!.

في تلك الليلة، ربما لم أنم إلا دقائق معدودة، وكنت في حالة عصبية صعبة، لدرجة أنني لم أمسك دموعي وأنا أتخيل سنوات طويلة من التجربة التركية التي عشتها وعايشتها ودرستها وحاضرت فيها وعنها تنهار أمامي، وأحاول تخيل حال البلاد في حال نجح الانقلاب، وتأثير ذلك على قضايانا الأخرى.

في تلك الليلة، أشرت على بعض الأصدقاء من الطلاب الأجانب ألا ينزلوا للشوارع حتى لا يؤثروا سلباً على الحراك الشعبي التركي المناهض للانقلاب، فقد كانت هناك حملات كثيرة تركز على الوجود السوري تحديداً وتدعي أن العدالة والتنمية يحشدهم على أنهم أتراك. نصحت الشباب بعدم النزول، لكنني وددت لو كنت هناك، فلا أقسى من شعور المتابع المتفرج أمام الأحداث المفصلية.

في تلك الليلة، رجاني شقيقي ألا أظهر على وسائل الإعلام (خوفاً علي) ووعدته، لكنني أخلفت وعدي. كانت معظم الشوارع الرئيسة قد أغلقت ولم يكن ثمة إمكانية للذهاب لأي استوديو، لكنني شاركت هاتفياً على قنوات العربي والحوار والحرة، على ما أذكر.

في تلك الليلة، تشاءم كثيرون من "البيان رقم واحد" للانقلاب الذي تلته المذيعة مرغمة، لكنني تفاءلت كثيراً. رأيت في تلاوة البيان من المذيعة وليس من شخص عسكري يفترض أنه قائد الانقلاب بل وبدون أسماء واضحة، رأيت في ذلك دلالة على أن الأمر ليس من تدبير رأس قيادة الجيش أولاً وأنه لم تستتب له الأمور ثانياً، فتفاءلت. وأذكر أن مذيع الحرة قال لي في سؤاله ما معناه أن "الجيش التركي قام بانقلاب" ، فقلت له هذا غير صحيح، البيان لم يصدر باسم المؤسسة العسكرية بل باسم مجموعة، كما أن البيان يعني بالنسبة لي أن الانقلاب لم ينجح بعد وما زال الوضع في سجال والسيناريوهات مفتوحة.

في تلك الليلة، حين ظهر اردوغان على شاشة تلفون مذيعة CNN TURK انزعجت جداً، إذ كان ظهوره هكذا يعني أنه غير ممسك بالأمور تماماً، لكنني تفاءلت كثيراً لأنه ما زال حراً، فأولى خطوات كسر الانقلاب هو بقاء القيادة السياسية حرة لتقود الشعب في معركة كسر الانقلاب، وهو ما كان.

في نهاية تلك الليلة، في الصباح وبعد أن انكسر الانقلاب، قررت الذهاب للمستشفى لأني كنت قد أعطيت بعض المرضى مواعيداً وتوقعت حضور بعضهم. في الطريق شبه الفارغ إلا من بعض السيارات، رأيت السيارات الكثيرة المتوقفة على جانبي الطريق وبعض المركبات العسكرية المقلوبة رأساً على عقب أو المتضررة وشاهدت بعض الشاحنات الكبيرة التي أغلقت بعض الشوارع الكبيرة لمنع تقدم الدبابات. سجلت كل ذلك على هاتفي وأنا أقود السيارة وأذرف الدموع للمرة الثانية تلك الليلة، لكن هذه المرة بداعي الفرح والتأثر.

في تلك الليلة، كتبت الكثير على واتس أب وتويتر، وتواصلت مع الكثيرين وتواصل معي الكثيرون ممن أراد الاطمئنان على الأوضاع أو الاستفسار عن رؤيتي لمآلات الأمور، لكنني لم أكتب شيئاً على فيسبوك.

بعد أشهر من تلك الليلة، قال لي أحد الأصدقاء إن أحدهم (وأظنه عربياً لا تركياً) قال له: سعيد كان مع الانقلاب ومع جماعة كولن، بدليل أنه لم يكتب شيئاً على فيسبوك ليلة الانقلاب.!! 

طبعاً حمدت الله أن هذا الـ "أحدهم" ليس مسؤولاً، وإلا كنت اليوم في زنزانة يُحقق معي بتهمة المشاركة في انقلاب عسكري والانتماء لمنظمة إرهابية، فقط لأنني لم أكتب على فيسبوك. صحيح، توفيق عكاشة فكرة، والفكرة لا تموت.!!

التعليقات