الكتابة في ظلّ اليأس العربي؟
الاربعاء, 09 أغسطس, 2017 - 10:40 صباحاً

تحادثت، عن لحظات التأزم وكيفية مجابهتها كتابيا، مع الكثير من الكتاب عبر العالم، من خلال زيارات خاصة، أو لقاءات منظمة كثيرة، ووصلت إلى القناعة المطلقة التالية وهي أن الكاتب في النهاية حالة لها كينونتها. 

حساسية مفرطة، كثيرا ما تنغلق عليها السبل فلا تجد من مسلك للمواصلة إلا فكرة التوقف، لأن العالم الذي تعيش فيه، انغلق على نفسه ولم يعد يستجيب لشيء. ولم تعد قادرة على قراءة ما يتخفى وراء اللوحة المتشائمة التي يقدمها المجتمع عن نفسه. 

الكاتب العالمي الذي يقع خارج دائرة التخلف والصراعات الحضارية والاثنية والثقافية لا يمكنه أن يلمس جوهر هذا الإحساس باللاجدوى، ويرى في ذلك غـــــرابـــة، لأنه لا يستطيع أن يدخل في عمق التراجيدية التي يعيشها كاتــــب في عالم متخلف. تظل كتاباته تدور على حواف مجتمــــع حل مشاكله الكبرى. ما تثيره أسماء كبيرة مثل بول أوستر، موراكامي، ستيغ لارسن وغيرهم في كتاباتها لا يخرج عن معضلات المجتمع المتقدم إلا عندما تنزاح نحو التاريخ أو بعض قضايا المجتمعات الثالثية.

نخبة قليلة من هؤلاء تعود إلى عوالم التراجيديا، والمأسآسي الإنسانية الكبيرة التي خلفتها الحروب، ومنها الحروب الكلاسيكية والأهلية كما حالة إسبانيا واليونان، والبرتغال، ويوغوسلافيا سابقا، حيث تنطفيء رؤى الإنسان، ويُسد كل شيء أمامه. 

لكنها ليست بقوة النصوص التي نشأت داخل الارتباك والغموض والموت اليومي. وداخل اليأس الذي خلق أجيالا سمي بعضها في أمريكا بجيل الضياع الذي تزعمه في الخمسينيات كيرواك وجسده في روايته في الطريق، الوليمة العارية لوليام بروثز، وكتابات آلان كينزبار وغيرهم. رسموا حالة اليأس وتخطوا عتبات الخوف وأدانوا استعمار الفيتنام. وحرروا المجتمع الأمريكي المحافظ من عقده الجنسية. أحفادهم اليوم، يرون الموت في إفريقيا وآسيا والعالم العربي ولا يلتفتون ولا يحركون ساكنا وكأن العالم استقر على مظالمه حتى أصبحت عادية.

بعد الحروب التي اكتشفت فجأة أنها تعيش في عالم لم يعد له ما يمنحه للبشرية إلا الجشع والصغينة والمصالح. الكثير من الكتاب العالميين توقفوا عند الكتابة عندما أدركوا أنه لم يعد أمامهم ما يضيفونه. المأساة كانت أكبر من أن يرسمها نص أدبي. الكاتب العربي يواجه اليوم هذه المأساة بأسئلة مقاربة: ماذا يمكنه أن يقول في وضع لم يعد فيه قادرا على متابعته؟ رؤية تصطدم بشراسة اجتماعية غير مسبوقة، لا تستطيع أن تتخطى حاضرا مأساويا ولا يمكنها أن ترى ما يمكن أن يتخفى وراء لوحة اليومي التي تأكلها الخيبات والحرائق. 

حاضر عربي انغلق على نفسه وأصبح يعيد انتاج هزائمه بصيغ أكثر أناقة وتحضرا وكإنها فتوحات وانتصارات. الوضع العربي يرسم هذه اللوحة بامتياز على كل المستويات. الكتابة لم تعد موضوعا احتفائيا.

لم تعد تهم المقروئية التي هي جزء من المجتمع الثقافي، أمام ما توفره له القنوات والفضائيات التي تشظت بشكل كبير لتستجيب لكل الأذواق، من الترفيهية، الموسيقية بنماذجها التي خلقتها، إلى الدينية التي حبست الجمهور في ميراث معطل للعقل، إذ لا نجد قناة واحدة من هذا النوع، تربط الدين بمعضلات العصر، واكتفت كلها تقريبا بترديد ماض تريده أن يظل ثابتا، ولم يبق إلاّ جمهور خفيف جدا هو بقايا حبات نفذت من عيون الغربال.

من هنا تصبح القراءة كمالية من الكماليات في مجتمعات بائسة لا تملك أي حل لمآسيها سوى تكرار البؤس. ماذا يبقى أمام كاتب مخلص لجهده غير التفكير في التوقف نهائيا عن الكتابة والاستمرار في عيش النمط الحياتي المفروض عليه حتى الموت؟ كلما سمعت من أصدقائي أن فعل الكتابة لم يعد مجديا ولا مجزيا، يصيبني الخوف أكثر من الآتي وأقول في خاطري: ماذا لو تفرغ أحدنا لجهده الأساسي وهو الكتابة فقط؟ سيموت حتما جوعا ومرضا وعزلة. 

جيد أن نشاط الكاتب الحياتي يقع خارج فعل المنجز الإبداعي. فهو إما صحافي محترف أو جامعي أو يعمل بمؤسسة تضمن حياته. كل من حاول غير ذلك، انتهى على حافة التسول والموت. لا يوجد في العالم العربي من يعيش من كتاباته، حتى بالنسبة للمعروفين. قد تمنح الجوائز العربية الثمينة ماديا، فسحة وراحة مادية لزمن صغير، لكنها لا تحل الإشكال إذ سرعان ما ينتهي مفعولها، على العكس من الجوائز الغربية.

جائزة الجونكورد مثلا، لا قيمة مادية يجنيها من ورائها مطلقا. لكنها تضع كاتبها في مدار الاهتمام الأدبي، ويبيع ببساطة، في الأيام الأولى من صدور الكتاب الفائز، أكثر من نصف مليون نسخة إضافة إلى الدور الحاسم الذي تلعبه وسائل الإعلام الثقيلة. على العكس من العالم العربي. في عالم مكون من 300 مليون نسبة لا يبيع الكاتب العربي شيئا ذا بال في ظلّ عشرات المؤسسات الإعلامية المعطلة.

لا تخصص أي منها، ثانية واحدة للكتاب. وحتى عندما تخصص تمر ببلادة عندما لا يكون من ورائها أفق إعلامي حقيقي. ماذا لو خصصت Mbc مثلا «سبوت» إعلاميا لصالح كتاب عربي مهم؟ ماذا لو فعلت روتانا الشيء نفسه. ثوان معدودة تكفي لجعل الكتاب بيست سيلر. إذ أن الكثير من جمهور السينما والغناء سينزلق نحو الكتب. 

أكثر من ذلك، ماذا لو فُتحت أسواق الكتاب العربية، ونزعت عنها أثقال الجمارك؟ لن تتأثر الميزانيات التربية العامة، ولن تتغير مؤشراتها الاقتصادية، وتخفف الانهاك على قاريء هو أصلا يبذل جهودا مضاعفة للوصول إلى الكتاب؟ ماذا لو أدرك الحاكم الذي كثيرا ما يضلله عقله والحاشية المحيطة به، بأن الفنان والكاتب تحديدا، سقط متاع وآلة لإنتاج الفوضى، ومهدد للنظام والاستقرار؟ وينسى الجميع أن الفنان والكاتب بالخصوص، لا يمس شخصا حاكما بعينه، حتى ولو حدث ذلك، لكنه يمس بنية خاملة وثقيلة ومعطلة لأي تطور، تكونت عير السنوات مثل التي تراكمت فوق بعضها في شكل طبقات من براكين الخيبة وبؤس الزلازل المعرفية.

الكتابة وحدها تملك قوة التوغل فيها. بدل اغتياله أو قتله أو الدفع به نحو المنافي والموت البطيء أو مسخه في شكل قرد أو ببغاء، يفترض أن تتم المحافظة على هذه الكائنات المهددة بالانقراض والزوال، على الرغم من كونها الحافظة على التوازنات الأساسية للمجتمع كالنحل الذي يموت اليوم وتنقص أعداده وهو ما يهدد بكارثة إيكولوجية حياتية. الكثير من العلماء نبهوا إلى ذلك، لكن لا أذن تسمع.

الكاتب العربي سيكون أول المنقرضين إذا استمرت الأوضاع العربية في انهياراتها المتتالية. لهذا لا نستغرب عندما نسمع كاتبا يقول: سأتوقف عن الكتابة. 

قد يستمر في الكتابة لنفسه حفاظا على كبرياء وجودي دفين، لكن الكتابة كفعل اجتماعي acte social ستتجمد وتتكلس أكثر، قبل أن تنطفيء جذوتها نهائيا.

*القدس العربي 

التعليقات