نصرة السفاح وتبرير المذبحة
الثلاثاء, 15 أغسطس, 2017 - 12:00 مساءً

في المجتمعات العربية، مازال وباء الشمولية الذي أورثتنا إياه العقود الطويلة من الحكم السلطوي عصياً على الاستئصال من الثقافة الغالبة.

 وإفرازات ذلك الوباء اللعين ترتبط قبل كل شيء بفرض نظرة استعلائية تجاه المجتمع والتاريخ تتناقض مع جوهر الفكرة الديمقراطية، وتكمن خطورتها في شيوعها بين الحركات الاجتماعية والتيارات السياسية المختلفة وفي تراجع أصوات معارضيها بعد الانقلاب على الربيع العربي والصعود الدموي للثورة المضادة. 

ترفض النظرة الاستعلائية تجاه المجتمع الاعتراف بواقعه الاجتماعي والسياسي، بل وتستبيح نفيه باسم صياغات أيديولوجية علمانية كانت أو دينية. 

تعالت على سبيل المثال خلال الأعوام الماضية أصوات العديد من اليساريين والقوميين والليبراليين العرب في أعقاب نجاحات القوى والأحزاب الدينية الانتخابية مهونة من شأنها، ومفسرة إياها باختزالية ملحوظة إما كتعبير عن وعي جماهيري زائف أو كظاهرة انتقالية مآلها إلى الزوال مع انتظام آليات المنافسة السياسية أو كدليل على عزوف الأغلبيات «علمانية الهوى» عن المشاركة وتركها ساحة الفعل للإسلاميين جيدي التنظيم. مصدر الاستعلاء الشمولي المناقض للفكرة للديمقراطية هنا هو تجريد الحقيقة المجتمعية من مضمونها، وتأويلها القسري بصورة تلائم فقط قناعات الذات الناظرة.

وينطبق ذات الأمر على دفع الأصوات الدينية والمحافظة بخصوصية العالم العربي الثقافية والحضارية حين معالجة مسألة العلاقة بين الدين والسياسة وتلك القضايا المرتبطة بشؤون الحكم والأطر الدستورية والقانونية الناظمة له. يفرض الدينيون على مجتمعاتنا العربية إطارا كليانيا يدعي احتكار الحقيقة وبالتبعية قدرة التمييز القطعي بين الأصيل والوافد، بين النافع والضار، بين الخير والشر.

 ثم تختصر ظواهر الاجتماع والسياسة المركبة في اختيارات مخلة من شاكلة إما «الانتماء الديني أو المواطنة» و»الشريعة في مقابل القوانين الوضعية»، ويصادر بالتبعية حق المواطن في الاختيار الحر وينعت المسكين بالجهل والضلال إن ذهبت تفضيلاته الفعلية في اتجاه مغاير. ومثلما يتناقض مع واقعنا المعاش تفسير شعبية التيارات الدينية بالإحالة إلى وعي زائف، يغيب المعنى عن اعتبار نجاحات الإسلاميين الانتخابية بينة انتصار إلهي للحق على الباطل. 
أما استمرارية النظرة الاستعلائية للتاريخ فيدلل عليها ويعيدها إلى الأذهان النقاش البائس المستمر إلى اليوم حول الهولوكوست (محرقة اليهود الأوروبيين في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي) وجرائم تهجير اليهود العرب في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

 يمثل التعاطي الإنكاري لكثيرين بين صفوف التيارات العلمانية والدينية مع الهولوكوست الذي قتل به النازي ملايين اليهود وجرائم حكومات العسكريين في مصر وسوريا والعراق بحق مواطنيهم اليهود نموذجا مقيتا لسقوطنا عربيا في ظلامية التفسير الأحادي لأحداث الماضي الكبرى على نحو يروم بالأساس إقصاء الآخر (المجتمع الإسرائيلي هنا والجاليات اليهودية ذات الأصول العربية التي توزعت بين إسرائيل والمنافي الأوروبية والأمريكية هناك) بدحض راويته التأسيسية وكل ما ترتب عليها من وقائع. 

ونكون هنا مجددا أمام نظرة شمولية تنفي التاريخ، وتحتقر الإنسان بإقصائه، وتتناقض مع الجوهر الديمقراطي المستند إلى قبول الأخر وإعلاء قيم العيش المشترك والتوافق والتسامح والتعددية.
كذلك، تخفت أصداء حديث حقوق الإنسان والديمقراطية في ظل الهيمنة الشاملة لثقافة العنف الإقصائية والغياب الكامل لقيمة الفرد-الإنسان-المواطن. 
باختصار، لأنني تناولت مسألة العنف وتداعياتها على صفحات «القدس العربي» من قبل، لا إدارة سلمية ممكنة للاختلاف في مجتمعاتنا العربية ولا تداول محتمل للسلطة في إطار حكم القانون والمشاركة الشعبية بينما أدوات العنف الرسمي وفرص توظيفها تسيطر على مخيلة نخب الحكم وأدوات العنف غير الرسمي تتلاعب دوما بالوعي الجمعي المعارضين. من مصر وسوريا والعراق إلى المجتمعات العربية التي تبدو على السطح أقل عنفا، تمارس نخب الحكم العنف «بكفاءة وتعقد وظيفي» تتنوع معهما مستويات القمع من قتل إلى سجن واعتقال وتعذيب مرورا بتعقب وتشريد ومنع وانتهاء بتهديد ووعيد.

 وفي المقابل، العديد من الحركات الاجتماعية والتيارات السياسية ينشغل بتأييد جرائم نخب الحكم في بلادها أو بعيدا عنها. كمشهد تلك المجموعة من الأحزاب «العلمانية» المصرية التي خرجت على الرأي العام قبيل أيام بمؤتمر صحافي «لنصرة» سفاح سوريا وللدعوة إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية بين «حكومته» وبين الحكومة المصرية (بالمناسبة التعاون السياسي والاستخباراتي بين الحكومتين لا يعوزه التحسين)، أو كبيانات أحزاب «ليبرالية» و»يسارية» مصرية أخرى مازالت بعد مرور أربع سنوات على مذبحة رابعة تحتفي بالمذبحة كفعل تحرير («الذكرى السنوية لتحرير رابعة من الإخوان») وبمرتكبيها كمحررين، وتبرهن بذلك مجددا على تورطها في المذبحة تبريرا وترويجا للقتل وإراقة الدماء. والقليل من الحركات الاجتماعية والتيارات السياسية في بحث بائس من نوع آخر، بحث عن إمكانات وأدوات العنف غير الرسمي وتداعياتها المحتملة للإطاحة بنخب الحكم واستبدالها بنخب حتما لن تقل عنفا.

الأكيد هو أن الديمقراطية تستند كفكرة ونظام لإدارة العلاقة بين الحكم والمعارضة إلى تبلور قناعة لدى الطرفين بإمكانية الصناعة السلمية للتوافق بينهما بصورة تضمن مصالحهما الحيوية وتصيغ من القواسم المشتركة ما يسمح بتفعيل حكم القانون والمشاركة الشعبية. أما استشراء العنف وثقافته فمعناه شيوع المعادلات الصفرية والنظرة الراديكالية التي تلغي الآخر وتمارس الحكم والسياسة كأفعال افتراس واقتناص واحتكار. يقضي وباء الشمولية، إذا، على فرص تنامي الإيمان العام بالديمقراطية وحقوق الإنسان ويفرض واقعا عربيا يمكن اختزاله في رمزية مقولتي «سلاح في وجه كل مواطن يتجاوز خطوطي الحمراء» أو «سلاح لكل مواطن يكرس معي خطوطي الحمراء».

 تفرغ المواطنة من مضامينها الحقيقية وتستحيل حديثا باليا لنخب حاكمة سلطوية ومعارضات علمانية تتورط في الدماء وكيانات دينية وطائفية تسلب الفرد أدميته وحقه في الحياة أينما شاءت وكيفما شاءت.

*القدس العربي 

٭ كاتب من مصر

التعليقات