الليبرالية وتحولاتها .. تأثيرات على الفكر العربي
الأحد, 10 سبتمبر, 2017 - 08:00 مساءً

السؤال عن ماهية الليبرالية مفيد لزمننا الراهن. لقد ركزت الليبرالية الكلاسيكية في بدايات القرن التاسع عشر على الفرد وحرياته وحقوقه، ورأت في الدولة الإقطاعية عدوا للفرد، لهذا دعت الليبرالية الأولى لعدم تدخل الدولة في حياة الناس، ودعت للحريات وحق التعبير وعدم ممارسة الدولة للاضطهاد الديني. لقد استمدت الليبرالية الأولى أفكارها من آدم سميث وجون لوك. لقد تركت تلك الليبرالية أثرا في العالم العربي في بدايات القرن التاسع عشر بين سيل من المفكرين كالطهطاوي وأديب إسحاق وغيرهما. 

لقد تطورت الليبرالية لتصبح توأم النظام الديمقراطي الانتخابي الذي بدأ كنظام تتحكم به أقلية من النخب المتنفذة. وبسبب حركات شعبية في صفوف الطبقات العاملة والريف فرض على الطبقات المالكة تحرير النظام الانتخابي ليشمل كل الناس. ومع الوقت أصبحت الليبرالية تعني الحريات والحقوق والضمانات الدستورية بكل أنواعها، بالإضافة لحكم الأغلبية في ظل حقوق واضحة للأقليات الاجتماعية والسياسية. 

واستمرت الليبرالية بالتحول، ففي موجة أخرى من التحركات والاحتجاجات الشعبية بعد الحرب العالمية الأولى تبين بأن المجتمع بحاجة للتوازن بين الفرد وحقوقه ودور الدولة في ضمان العدالة الاجتماعية. وقد نتج عن هذا نشوء دولة الرفاه بعد الحرب العالمية الثانية. هذه المدرسة ألزمت الدولة التدخل في الاقتصاد من خلال الضمان الاجتماعي والنقابات والضمان الصحي ومواجهة الفقر. لكن الدولة الليبرالية الغربية وصلت مع ثمانينيات القرن العشرين لمأزق جديد بسبب ثقل الديون التي تحملتها دولة الرفاه. لهذا برزت المدرسة النيوليبرالية بصفتها البديل. 

جاءت النيوليبرالية كردة فعل على تدخل الدولة في الاقتصاد، ومن تعبيراتها قيام الدولة ببيع القطاع العام للخاص وتخليها عن الكثير من القوانين التي تتدخل في تنظيم الاقتصاد. وبسبب تحرير السوق من الضوابط أصبح رأس المال في كل مكان. وشكلت مدرسة ريغان وتاتشر أحد أهم تعبيرات النيوليبرالية. في هذه الحقبة تركزت الثروة في يد فئات صغيرة في أعلى الهرم وفقدت الطبقات الشعبية الكثير من ضمانات العمل والعلاج والإدخار. في حقبة النيوليبرالية تضخم دور الشركات العالمية كما والمحلية. وقد سبب هذا حركات مضادة في العالم. 

لم ينته العالم من مرحلة النيوليبرالية، فهي مستمرة بزخم، لكن مقاومتها قائمة، ولا يعرف بعد شكل الولادة الجديدة التي ستوازن بين العدالة وتبعاتها من جهة وبين الليبرالية السياسية وحرياتها من جهة أخرى. فهناك حركات ليبرالية ويسارية تسعى لاستعادة مكانة العدالة الاقتصاية والسياسية وحقوق الإنسان على كل صعيد، هذا صراع قائم اليوم مع الترامبية والأنظمة الغربية التي تمارس العنصرية (باسم الضرورة). 

لقد انتقلت للعرب تجارب الغرب بصورة مشوهة،:فالنيوليبرالية الغربية» تحولت في العالم العربي لمدرسة مولدة للفساد. السبب في ذلك حرق المراحل والتداخل بين الدولة والنخب السياسية الحاكمة في ظل إفساد القطاع الخاص.. لقد اقترنت النيوليبرالية العربية مع الديكتاتورية وعدم المساءلة والبطالة وتراجع الطبقة الوسطى العربية.

وفي ظل النيوليبرالية العالمية والعربية برزت في الساحة العربية مدرسة تحسب على الليبرالية لكنها لا تتعامل مع مضمونها. هذه المدرسة تبدو عدوة لليبرالية، وان كانت تلبس بعضا من ثيابها لأنها تشجع على الحريات الخاصة بالمأكل والمشرب والتسلية والسفر وبالطبع التجارة والتملك والتنافس، لكنها تستثني بشدة وبتعصب الحريات السياسية وحرية التعبير ومكانة العدالة الاجتماعية والمساواة أمام القانون من قاموسها. إن دعوة قطاع كبير من «الليبراليين شبه الرسميين والحكوميين» لعزل تيارات سياسية بكاملها (كالتيار الإسلامي والمنظمات الحقوقية على سيبيل المثال) في ظل غضها للنظر عن حقوق الإنسان والاحتكار خوفا من الأغلبية السكانية ازداد وضوحا في السنوات القليلة الماضية وبعد ثورات 2011 العربية. هذه ليست ليبرالية بل تعبيرا عن مصالح ضيقة وأرستقراطية رافضة للتغير. 

التاريخ رواية مستمرة، كل فكرة تأتي بنقيضها، وكل نقيض يسير بنا لفترة من الزمن قبل أن تتكاثر صيغ تجمع المتناقضات في حلة جديدة. التاريخ يسير على الدوام مع خياراته الصعبة، فالليبرالية السياسية بالتحديد تطورت من الحرية نحو قيمة العدالة، وتطورت بين الإنسان ككائن فرد، وبين الإنسان ككائن أخلاقي اجتماعي تهمه قضايا العدالة، ويتفاعل ضمن جماعة وأمة وهوية وثقافة وتاريخ.

الوطن القطرية
 

التعليقات