هل كانت مي زيادة ماسونية ويهودية لاوية؟
الاربعاء, 08 نوفمبر, 2017 - 09:03 صباحاً

التهمة ثقيلة بالمعنى الثقافي والديني والحضاري، فهل لها ما يسندها؟ نعرف جيدا أن في حياة مي زيادة الكثير من القصص المبهمة يقف وراءها، في أغلب الأحيان، تعطش ذكوري لا يعلن عن نفسه بسهولة. لهذا كانت قصصها الحياتية، الصحيحة والمختلقة، على الكثير من الألسن. قصتها مع جبران وصلت إلى السماء بوصفها الحب المثالي الحالم، إلى درجة أن أصبح هذا الحب نموذجا غراميا استثنائيا فيه الكثير من أنفاس قيس وليلي، لأنه مستحيل واللقاء فيه يكاد يكون ضربا من الخيال. ونعرف جيدا أن حياة جبران كانت مليئة، ويمتلك حديقة من العشيقات والحبيبات.
 
وأن ما دار بينه وبين مي، في النهاية، لا يتجاوز الصداقة الجميلة والأخوة اللطيفة والإعجاب الكبير، امرأة مسحورة بكاتب كبير، مهما كانت خديعات اللغة التي تقوم إلى تنميق الكلام ومنح ظلال عشقية. هناك عواطف يمتزج فيها الإعجاب والرغبة في الذهاب بعيدا في الأفكار. الغريب هو أن كلا منهما كان يسافر كثيرا في أوروبا والعالم الأنجلوساكسوني، فما الذي منعهما من اللقاء مثلا، إذا كان هذا الحب استثنائيا وعظيما ورومانسيا؟ الضغوط النفسانية والدينية، وتربية الأديرة ليست سببا وجيها أو على الأقل كافيا، لم تمنعها مي من حب ابن عمها جوزيف زيادة، طالب الطب في المدرسة البيروتية، وإظهار ذلك أمام الملأ؟ علاقتها مع العقاد الذي كان يرى أن العائق في تطور حبهما هو الوازع الديني الذي تلقته مي في الناصرة وعينطورة.
 
 هذا لم يمنعها أيضا من لقائه وقضاء أوقات جميلة برفقته في السينما وخارجها. وعندما انقطع عن صالون الثلاثاء، خصصت له يوم الأحد حتى يلتقيا بعيدا عن الأنظار. هذا وحده يكفي للقول إن قصة الحب المثالي مع جبران لا تستقيم وفق المعطيات المتوفرة بين أيدينا. لا يمنع نشوء إعجاب كبير بأدب جبران والدفاع عنه. كأي إنسان معشوق، كانت مي تجد لذة خاصة في أن تكون مثار حديث الرجال واهتمامهم بها لأنها هي أيضا كانت تريد أن تكون مركز الجدال والسجال، ولم ترفض هذا النوع من التقربات الغزلية الدافئة. هذه القصص وغيرها ظهرت للعلن، لأن وراءها كتّابا عشّاقا وصحافيين ظلوا يتتبعون دقائقها. لكن بعض قصص الحب ظلت مبهمة، لأن أصحابها لاذوا بالصمت. أثار هذا بعض النقاد وعرضوه على الملأ بوصفه حقائق ثابتة، أو دليلا صافيا عما زعموه. من شدة تركيز الباحثين على حب مي- جبران، نسيت التجارب العشقية الكبيرة الحقيقية التي أثرت بقوة في حياة مي، لأنها كانت خالية من المغريات الدعائية، قصتها مع ابن عمها جوزيف زيادة التي انتهت بها إلى الكآبة ثم إلى العصفورية، ثم إلى موت العزلة.
 
 الأكثر غرابة في مساراتها العاطفية، هي قصتها مع شخصية كبيرة مؤثرة اجتماعيا ناهيك عن كونه رئيسا للمحافل الماسونية المصرية: إدريس راغب بك. فقد سخّر هذا الأخير حياته كلها وثروته وممتلكاته في خدمة النشاط الماسوني في مصر، حتى تولى منصب «الأستاذ الأعظم «، وكان عمره في ذلك الوقت نحو ثلاثين عاما، كما قام بتسديد ديون « المحفل الماسوني الأكبر الوطني المصري «فتح خزائنه في خدمة المحفل ونشاطه» علاقة مي بذلك كله نكاد لا نعرف شيئا عنها. قصتها مع الماسونية غير مؤسسة ثقافيا باستثناء اللقاء مع إدريس راغب بك. أو ما أورده أحمد حسين الطماوي في كتابة: ليلة باسمة في حياة مي، الصادر عن دار الفرجاني، الذي يزعم فيه ثلاثة أشياء مربكة تحتاج إلى المزيد من البحث والتعمق. أولا، قبول مي الهدية الملغومة من إدريس راغب بك. عندما انتقلت إلى مصر وجدت عملا يسمح لها بالعيش عند بعض العائلات الغنية، فوجدت نفسها تدرِّس اللغة الفرنسية لأبناء إدريس راغب. كان عمرها وقتها 17 سنة. وكان هو أيضا يعرف اللغة الفرنسية.
 
 ونظرا للنتائج السريعة والإيجابية على أبنائه؟ منحها ولوالدها حق ترؤس وتسيير جريدة المحروسة التي اشتراها الأب لاحقا. مع أن الطماوي حولها إلى هدية من دون مقابل، ومنحة، والمعروف من بعض من عاصروا مي، أنها ليست هدية ولكن الأمر لا يعدو أن يكون تسييرا لجريدة كانت موجودة قبل وصول عائلة مي. بعدها اشتراها إلياس زيادة، والد مي، ومعها المطبعة. لهذا من الصعب تخيل مي ماسونية في غياب أي معطى علمي من المعطيات. حتى مي لم يكن لها أي اعتبار ثقافي كبير في الوسط القاهري، أي لم تكن معروفة لتصبح مركز جاذبية لإدريس راغب؟ مستبعد لأنه لا توجد وثيقة واحدة تثبت ذلك. أكثر من هذا، الانتماء للماسونية في ذلك الوقت لم يكن عيبا بل انتماء ثقافيا وإنسانيا. كان ينظر للماسونية بوصفها مساحة إخاء بشري وتلاقي الأديان والمحبة البشرية وهو ما قاد الأمير عبد القادر مثلا نحوها في فرنسا والاسكندرية، وأجاب عن ألأسئلة المبدئية في نقاش جميل دَوّنه ابنه محمد في تحفة الزائر. والكثر غيره من رواد النهضة العربية العقلانية من شكيب أرسلان، محمد عبده، وغيرهم.
 
إضافة إلى الانتماء الذي تلفه السرية الكبيرة. سنفترض هذا من باب الخدمة اللغوية التي قدمتها لأبنائه وقدمها هو لها ثم كونه يحتل رتبة عالية في الماسونية، وبلغ من تقدير الماسونية العالمية لإخلاصه أن أنشأ محفلين أحدهما « محفل إدريس « والآخر «محفل راغب» يحملان إسمه وهو مالم يحدث لشخص غيره من قبل. أنشأ صحيفة تنطق باسم الماسونية، ثم حزبا سياسيا سماه « الحزب الدستوري « وتولى إدريس راغب رئاسة المحفل الماسوني وشغل منصب الأستاذ الأعظم بعد وفاة « توفيق باشا « منذ عام 1893 وحتى عام 1922 , أي نحو 29عاما رئيسا للمحفل الماسوني المصري، وفي عهده ارتفع شأن المحافل الماسونية في مصر حتى أصبحت هي القوة الخفية المهيمنة على نظام الحكم في مصر. فكرة الماسونية سُيِّست كثيرا. لا أرى عيبا أن تكون مي ماسونية في ظل هذه الأوضاع، في ذلك الوقت الذي كان للماسونية معنى التحرر بالمعنى الكلي. يفترض من الباحث أن يغوص في الوثائق الماسونية ولا يوجد ما يمنع مطلقا.
 
فكرها الحداثي يتماشى مع طروحات الماسونية، لكن ما هي الاثباتات لأن الفعل الحداثي ينطبق على جيل بكامله عاش برفقة مي: طه حسين، لطفي السيد، العقاد، جبران، كانوا حداثيين فهل كانوا ماسونيين؟ الباحث اكتفى برمي الكلمة من دون عناء.
ثانيا القول بيهودية مي كما أكد على ذلك أحمد الطماوي، أمر مستغرب. ما نعرفه جيدا وهي الآتية من عائلة دينية أورثودوكسية، جاءت من تربية ميدانها مختلف الأديرة، كان الدين فيها حاسما. وحتى قبل موتها، عندما أراد طه حسين زيارتها في عزلتها، قالت له أنا هذه الأيام لا أستقبل إلا القساوسة. إذا أردت أن تراني تحول إلى قس وتعال. فأجابها بأنه لا يستطيع، فانقطعت العلاقة بينهما، ولم يحضر جنازتها. العناصر الدينية تقود كلها إلى دين أمها على الخصوص وطائفتها. الطماوي قال كلاما مثيرا لكنه غير مؤسس بأي شاهد علمي مقنع.
 
ولم يورد أي وثيقة تثبت ذلك. لهذا يبدو الزعم إعلاميا أكثر منه حقيقة تاريخية. لم يثبت أحمد الطماوي في أي لحظة، يهودية مي اللاوية؟
 
في النهاية، يجب أن لا ننسى أن مي كانت امرأة فريدة ومتفردة، وعداواتها مع التيارات التقليدية كانت كبيرة، كثيرة ومتنوعة، في مجتمع ذكوري بامتياز. ولا ننسى أيضا أنها امرأة مناضلة ومقاومة بارتكازها على الخطاب الحداثي العالمي الجديد، في مواجهة الضغينة والتخلف. كان رهانها الكبير الذي أعلنت عنه منذ البداية، رهانا إنسانيا لإخراج الشرق من يقينه وتخلفه. ولا يستبعد أن تكون هذه التيارت التقليدية هي من نمّى هذه الخطابات التي تشكك في قدرات مي زيادة.

*القدس العربي 

التعليقات