هل من حاكم عربي لإنقاذ السفينة من الغرق؟
الاربعاء, 22 نوفمبر, 2017 - 09:02 صباحاً

العالم الذي نعيش ضمنه اليوم كعرب، بمزيد من الريبة والخوف والألم والخيبات المتراكمة، أصبح مُصنِّعا للمغامرات كلها بما في ذلك مغامرة فبركة الطغاة الجدد الذين لا يختلفون في شيء عن هتلر وموسوليني وفرانكو، والزرقاوي والبغدادي، الذين يحفظ التاريخ اليوم أسماءهم وأفعالهم جيدا.
 
لقد انتهى زمن الطغاة الوطنيين؟ إذا صحت هذه التسمية، طغاة يحبون السلطة بشكل مَرضِي، لكن لهم قدرا من الوطنية الدنيا تجاه بلدانهم.
 
طغاة شاركوا في تحرير بلدانهم من ربقة الاستعمار، فحاولوا أن يجمعوا بين الأمرين، الخلود في السلطة ومحاربة معارضيهم، بل حتى قتلهم. الطغاة القادمون أو الجدد أغلبهم شباب براغماتيون، قادمون من مجتمعات الانتكاسات الكثيرة. لا عاطفة تحكمهم ولا ديمقراطية إلا ما يمكن أن يدعم سلطتهم خارج أية منظومة ديمقراطية. عاش أغلبهم في عز الحروب. تربوا على الدم والعنف وعلى انهيار قيمة الإنسان الذي يفترض أن يكون القيمة المتعالية.
 
نشؤوا أيضا في خضم إعلام يومي لا يتحدث إلا عن التقتيل العام الذي يقوم به الطيران الأعمى، والموت والحرق. وراكموا من اليأس لسحب بلدانهم إلى الأعالي، ما يجعلهم يضربون صفحًا عن كل حلم حقيقي، ويرون أعداء لهم في كل الأمكنة ليصبح الانتقام مع الزمن أقل من شربة ماء. هناك اليوم مؤسسات متخصصة في صناعة العدو لتدميره لاحقًا لأنه يصبح مخيفًا بنزاهته ووفائه لبعض القيم الإنسانية. كم من إنسان شُوَّه فقط لأنه طالب بالتغيير وتحسين الأوضاع في بلاده.
 
بالرعب وحده يحييون. يعرفون جيدا أن حقوق الإنسان هي في النهاية لغة الضعيف. ينادي بها المُنكسر، لكن ينادي بها أيضا الحاكم لاستثمارها عميقا بما يخدم نظامه. بينما القيم النبيلة هي آخر ما يدافعون عنه أو يفكرون فيه. متشبثون بالحكم حتى الموت أو يأكل الدود مؤخراتهم بسبب كثرة الجلوس على كرسي الحكم. الوطن الذي كان قيمة جماعية يصبح فردية فجأة لهذا يصبح الذود عنه وسيلة تدخل في سياق تركيز الحكم أكثر. هم الوطن، والوطن هم.
 
هناك من يخرج لهم مختلف المسرحيات لمواجهة أعداء الوطن، والقضاء عليهم. يعرفون دهاليز الحكم، نقاط القوة والضعف، كالذي يعرف جيبه. لا يخطئون غاياتهم وأهدافهم. لا يثقون في أي شخص. ولا حتى في الابن الذي كبر وزار العالم وعاش بعض مثالياته الثقافية ويريد تغييرا صغيرا في نظام الحكم.
 
يعيشون حالة العمى على أن كل شيء ينطفئ ولا يرون إلا أنفسهم في أنفسهم في الشعب الذي يحكمون. يكرهون السجون لأنها علامة عن الظلم. يحلمون بتهديمها لأنها غير نافعة وعلامة إدانة. سجينهم الافتراضي يُمحى في مكانه ولا يمنحونه حتى فرصة الدفاع عن نفسه أو أن يكون سجين الرأي كما فعل آباهم وأجدادهم، لأن السجون كما يرونها، مكان لتربية الأفاعي التي ستنهيهم يوما ما بسمها القاتل.
 
هم لن يتركوا أي أثر في الإنسانية، وغير منشغلين بذلك، فلا يوجد أي مقدس لهم. براغماتيون في علاقاتهم مع الآخر القوي. المصلحة فوق العداوة. لا يناصبونه أي عداء لو سرق أرضهم وعرض آبائهم، أولًا اتّقاء لشره، وثانيًا يريدونه حليفا في المصلحة على كونه عدوا يملك كل وسائل تدميرهم. قد يتحالفون معه. يثقون فيه أكثر من ثقتهم في قومهم.
 
يدركون أن العلاقة مع القوي هي حماية لهم، ولو كان ذلك وهما مفجعًا. لم يستفيدوا من أجدادهم. يدفعون بخطاب المحبة الأحادي إلى الأمام، حيث تصبح العمالة للآخر خيارا مصلحيا، وحيث أن القضايا القومية أو الإنسانية الكبرى تتحول إلى عقبات في طريقهم، يجب التخلص منها، والتخلص أيضا من العواطف الزائفة؟ التي لم تعد تفيد. لا مشكلة لديه مثلا أن يحكم، ويتحدث عن الديمقراطية والإنسانية وينشئ علاقات سرية أو جهرية، مع القوة العظمى والاستعمارات التي أحرقت أرضه وأرجعتها مئات السنوات إلى الوراء مستثمرا الصورة الإعلامية التي تفبركها له والتي تشيد ببراغماتيته.
 
صورة يحتاجها لتسيير امبراطوريته التي تنام على بركان طبيعي لا يمكنه أن يراه. التاريخ يعلمنا أن شيئا مثل هذا لا يدوم أبدا. ولا يمنح عمرا طويلا للحاكم وإن منحه بعض الاستمرار الإضافي على سدة الحكم.
 
نحن في عالم يحتاج فيه الحاكم العربي النزيه، إذا افترضنا وجوده، إذ لا يمكن للعالم أن يكون أسود في المطلق، إلى إعادة صياغة محيطه وعالمه وفق مصالح شعبه في عالم لا يؤمن إلا بالقوة.
 
أمامه رهانات كبرى شديدة الخطورة مخيفة جدًا، في ظل يأسٍ مستشرٍ. مجتمع يائس من كل شيء، حتى من نفسه. لم يعمل الطغاة إلا على تدميره اليومي داخليا. حتى انتفاضاته إما تكتسي طابعا دينيا متطرفا، أو انتحاريا.
لا أفق حداثي ضمن خيارات إنسانية واسعة كما حدث في الطفرة التركية مهما كان حديثنا وموقفنا منها. كيف يعيد الحاكم العربي النزيه الأمل إلى منطقة تحولت إلى ساحة حروب أهلية لها ما يبررها داخليا، لكن تقف في النهاية وراءها أجهزة حقيقية للإفناء وتحييد أي خطر مستقبلي يمكن أن يمس الكيان الصهيوني. فلسطين تضاءلت حتى أصبحت تقريبا دولة على الورق فقط. ويعمل أصحاب المبادرات إلى الدفع بالشعب الفلسطيني نحو غزة وقليل من الصحراء العربية وجنوب فلسطين المحتل، في صيغة تبادلية، مقابل التخلي نهائيا عن الضفة والقدس.
 
الأرض التي منحتها أوسلو وفكرة الدولتين، ارتدت عنها اسرائيل ولم تعد تعني الشيء الكثير. ما يحدث على الأرض يسير كله باتجاه إسرائيل الكبرى والصفاء الديني والعرقي؟ هل هذا ممكن؟ تلك قصة أخرى. المؤكد إن فلسطين تتضاءل. سورية التي كانت تشكل تهديدا محدودا أو حقيقيا على إسرائيل، دخلت في حرب أهلية مدمرة زكتها قوى محلية ودولية وانتهت فكرة توازن الرعب الرادعة. إسرائيل تملك ما يؤهلها لمحو كل حياة على الأرض العربية، بينما أصبح التربي غارق في قوته اليومي، مشردا، في حالة بدائية غير مسبوقة. العراق لا يختلف مطلقا عن الحالة السورية.
 
 فقد أنهك بحربي الخليج الأولى ثم الثانية التي لم تترك شيئا واقفا فيه. قبل فبركة داعش للتدمير الداخلي، ويدخل العراق في تمزقات داخلية دينية وعرقية، وجهوية، ولغوية وغيرها، لترتسم من جديد في الأفق، خطوط الخرائط القديمة الجديدة، الدينية والعرقية تحديدا: دولة سنية، وأخرى شيعية، وثالثة كردية. بتزكية من غرب علماني يرفض حدوث ذلك على أرضه وإلا لماذا صمت على الاعتقالات في كتالونيا وهو الديمقراطي المرمن بحقوق الأقليات؟ حتى لو نشأت هذه الدويلات الافتراضية مهما كانت حقوقها الإنسانية وفي ظل العلاقات الدولية الراهنة، لن تكون هذه الدويلات إلا تبعية، للأخ الأكبر، أميريكا أو الأخ الأصغر، إسرائيل. لا سلطة لها في سياستها، ولا حرية قرار. لهذا أكرر النداء الساخر المؤلم: هل من حاكم عربي في السفينة لإنقاذ ركابها من الغرق؟
 
* عن القدس العربي 

التعليقات