تجارة الموت.. لماذا يصعب لبريطانيا إيقاف تصدير الأسلحة للسعودية؟
- الجزيرة نت الجمعة, 07 سبتمبر, 2018 - 06:32 مساءً
تجارة الموت.. لماذا يصعب لبريطانيا إيقاف تصدير الأسلحة للسعودية؟

يتناول التقرير عالم صادرات الأسلحة البريطانية الذي تقع السعودية موقع القلب منه، وهو عالم تاريخي لطالما حفل بالمغامرات السياسية وحشد اللوبيات ولم يخل على إطلاقه من فضائح فساد مدوية، وشهد مجموعة من أكبر صفقات الأسلحة في العالم في القرن العشرين كاملًا، وصولًا إلى توغل السعوديين في قلب أروقة سياسات لندن مقابل تورط الأسلحة البريطانية في حرب اليمن الأخيرة. لذلك، تسلط المادة الضوء على صناعة الأسلحة التي تعتبر من أساسات الاقتصاد الإنجليزي، أحد أكبر اقتصادات أوروبا والعالم، وترصد مدى علاقة الرياض وأموالها بإنعاش خزائن ذلك الاقتصاد سواء كانت الأسلحة المستوردة لها قيمة عسكرية للمملكة وتستخدم فعليًا أم لا.
 
نص التقرير
 
لم يكن أمرا عاديا بحال ذلك الذي دفع المرأة الحديدية، إلى قطع إحدى إجازاتها النادرة للقاء أمير سعودي (1)، حيث بدا أن ماغريت تاتشر كانت تشعر بقدر كاف من الانزعاج بعد أن عرفت غريمتها فرنسا طريقها إلى سوق الأسلحة السعودي المربح بعقد صواريخ ضخم مع الرياض، وظهر أن العقد المربح قد داعب طموحات الفرنسيين للمضي قدما، ففي فبراير عام 1985 عقد ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز اجتماعا مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران لوضع اللمسات النهائية على صفقة جديدة تاريخية لتوريد مقاتلات داسو ميراج إلى الرياض، وخلال الأسابيع التالية كانت أنباء الصفقة الضخمة تخيم على الأجواء في أوروبا، وكان الجميع على درجة من اليقين أن الصفقة في طريقها للاكتمال.
 
في ذلك التوقيت، كانت درجة الحرارة في مياه الخليج قد تجاوزت نقطة الغليان بعد قيام الطائرات العراقية بقصف ناقلات النفط الإيراني في الخليج، مع أضرار جانبية جسمية أصابت الناقلات السعودية والكويتية، وللمفارقة فإن علاقة الرياض بالولايات المتحدة لم تكن في أفضل أحوالها، بعد أن صوت الكونغرس في مناسبتين متتاليتين بالرفض على صفقات أسلحة ضخمة إلى الرياض بما في ذلك صفقة ضخمة لتوريد مقاتلات "إف -15" على عكس رغبة الرئيس الأمريكي آنذاك رونالد ريغان، ولم يكن هناك بديل أمام السعودية سوى البحث عن مورّدين جدد للأسلحة لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة.
 
من جانب، كانت أوروبا على استعداد لفتح أبوابها والاستفادة من التراجع الأميركي للحصول على نصيبها من الكعكة الضخمة لصفقات السلاح السعودية، وكانت إدارة ريغان اليائسة من ضغط المشرعين ترغب في أن تذهب الصفقة إلى حلفائها البريطانيين وطائراتهم تورنيدو، بدلا من الفرنسيين المشاكسين ولكن فرنسا قررت الدخول على الخط عارضة مقاتلاتها "ميراج" مع ميزة تفضيلية تتمثل في سعر أرخص بنسبة 25-30% مقارنة بالتورنيدو البريطانية، وكان دخول فرنسا على الخط صفقة مربحة من الوجهين بالنسبة للسعودية، فإما أن تنج في النهاية في الحصول على المقاتلة الفرنسية، أو ربما تجبر المفاوضات واشنطن على التراجع والقبول بتسليم المقاتلات الأميركية.
 
ولكن أميركا لم تتراجع في نهاية المطاف، وكانت لندن في الحقيقة هي من أحست بالضغط وليست واشنطن، ولم تكن رئيسة الوزراء ماغريت تاتشر تملك رفاهية الانتظار حتى انتهاء إجازتها فقامت بقطعها على الفور، من أجل لقاء غامض مع الأمير بندر بن سلطان حامل أختام السياسة الخارجية السعودية آنذاك وعلى خلفية (2) تفاهم "بندر – تاتشر" آنذاك سرعان ما قام وزير الدفاع السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز باستقلال طائرته نحو لندن للقاء نظيره البريطاني مايكل هيزلتاين حيث تم توقيع عقود المرحلة الأولى لصفقة الأسلحة التي ستعرفها بريطانيا فيما بعد أنها أكبر صفقة أسلحة أبرمتها البلاد على مدار كل العصور، والمعروفة اليوم باسم اليمامة.
 
زمن اليمامة الهائلة
 
لا يعرف أحد حقيقة ما دار في لقاء "بندر – تاتشر" على وجه التحديد، لكن ما تؤكده الوقائع اللاحقة هو أن المرأة الحديدية نجحت بمهارة في معالجة جميع مخاوف شركائها الجدد، فلم يكن الأمر يتعلق فقط بالكفاءة الفنية لطائرات التورنيدو التي أثبتت لاحقا معدلات أداء منخفضة (3)، لكن في تلك الاهتمامات الخفية التي تحكم المشترين السعوديين، مثّل غلاف السرية شديد الإحكام حول القيمة الحقيقية للصفقة وغياب المسائلات المزعجة حول الطريقة التي ستستخدم بها الأسلحة في وقت لاحق.
 
لم تكن الشروط البريطانية المخففة مفاجئة على كل حال، فمنذ نهاية العالمية الثانية، وتحول المملكة العربية السعودية إلى محمية أميركية خالصة لم تكن أوروبا بأكملها تشعر بالرضا عن الاحتكار الأميركي لعقود الأسلحة المربحة في بلاد النفط، لذا فإنها كانت حريصة بين الحين والآخر على إبداء استعدادها للعمل كمورد بديل أقل فظاظة من الأميركيين حال سمحت الظروف بذلك، ولذا فقد استثمرت كبرى الدول الأوروبية في علاقاتها الدبلوماسية مع الرياض، ولم تكن بريطانيا استثناء من ذلك، حيث كانت ماغريت تاتشر نفسها حريصة على اللمسات الدبلوماسية الناعمة مع السعودية حتى في أوج ازدحام جدول أعمال الدبلوماسية البريطانية، وكمثال على ذلك حرصها على إيفاد وزير الخارجية ودوق أدنبرة لحضور حفل تنصيب الملك فهد في الوقت الذي كانت تخوض فيه بريطانيا حربا حول جزر فوكلاند.
 
غير أن المملكة كانت حريصة من اللحظة الأولى على أن تحتوي علاقتها بأوروبا،  لندن على وجه التحديد، على قدر أقل من الإذعان مقارنة بالواقع في علاقتها بواشنطن، فقامت بربط صفقات الأسلحة بالتحركات الإيجابية في السياسة الخارجية البريطانية أو على الأقل بعدم ممارسة أي ضغوط على سياستها من قبل لندن، وكان ذلك واضحا في عام 1982 حين أعلنت المملكة دعمها للبنانيين والفلسطينيين والسوريين، وقبل ذلك منظمة التحرير الفلسطينية، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في ذلك العام، وبدت لندن حيية على غير العادة في انتقاد الموقف السعودي، ونتيجة ذلك، وقبل نهاية العام نفسه، كوفئت وزارة الدفاع البريطانية بتمديد برنامج التعاون مع القوات الجوية السعودية، كما حصلت على عقد لتطوير شبكة الاتصالات العسكرية للحرس الوطني.
 
تطورت العلاقات السعودية البريطانية سريعا بفعل التأثير السحري للمغازلات الدبلوماسية بين البلدين، وبفعل الشروط المخففة للندن في توريد الأسلحة إلى السعودية مقارنة بشروط واشنطن المشددة. في ذلك الوقت، كانت النقطة الحاسمة حين تم توقيع العقد الرسمي لصفقة اليمامة في فبراير/شباط عام 1986 لتحصل بموجبه المملكة على 72 طائرة "تورنيدو" مقاتلة، منها 24 طائرة اعتراضية و48 طائرة هجومية، إضافة إلى 30 وحدة من طائرة التدريب "هاوك" و30 وحدة أخرى من طائرة بيلاتوس "بي سي 9" السويسرية، ومع ضخامة الصفقة التي قدرت قيمتها المبدئية آنذاك بـ 4 مليارات جنيه إسترليني، وعدت "تاتشر" المملكة بالحصول على أول طائرات خط الإنتاج، ونتيجة لهذا الوعد تم وضع سلاح الجو الملكي البريطاني نفسه على قوائم انتظار المقاتلة بعد الرياض، ولم تكن تلك الميزة الوحيدة التي منحتها المرأة الحديدية للمملكة، فرغم أن العقد وضع قيودا على قدرة السعودية على بيع الطائرات لجهة ثالثة، فإن بريطانيا لم تضع أي تحفظات على طريقة استخدام أو نشر الطائرات من قبل السعوديين.
 
ولكن الصفقة الكبرى سرعان ما أثارت قدرا غير مسبوق من الشكوك، وظهرت ادعاءات الفساد في غضون أسابيع من توقيع مذكرة التفاهم، بما في ذلك رشاوى مزعومة بقيمة 600 مليون جنيه إسترليني تم دفعها كعمولات سرية لتأمين الصفقة لبعض أفراد العائلة المالكة السعودية، وعلى رأسهم "بندر" نفسه ووالده وزير الدفاع "سلطان بن عبد العزيز". فضلا عن ذلك فقد ظهرت شكوك إضافية حول قدرة السعودية على الدفع مع الانهيار المفاجئ في أسعار النفط مطلع الثمانينيات، وسرعان ما تكشّف أن اليمامة كانت عبارة عن صفقة مقايضة، وأن المملكة ستدفع حصتها من النفط بدلا من النقد.
 
على الرغم من كل هذا، كانت بريطانيا تشعر أن الصفقة تستحق القتال من أجلها، وكان الطرفان عازمان على ما يبدو للمضي قدما نحو صفقة ثانية أكثر ضخامة، خاصة بعدما لمست الرياض مزيدا من التعنت من قبل الكونغرس في تزويدها باحتياجاتها من الأسلحة خاصة بعد الزج باسم أحد رجال الأعمال السعوديين (4) في الصفقة المشبوهة لريغان بتوريد الأسلحة إلى النظام الإيراني المعروفة إعلاميا باسم فضيحة "الكونترا" ، ويبدو أن التزام الحكومة البريطانية تجاه المتطلبات الخاصة للصفقات السعودية بما في ذلك السرية وقلة الرقابة قد أغرت السعوديين لمزيد من التعاون، وبحلول يوليو/تموز من عام 1988 كانت الدولتان قد وقعتا تفاهما رسميا جديدا عرف باسم "اليمامة الثانية".
 
وصفت المرحلة الثانية من اليمامة آنذاك بأنها صفقة الأسلحة الأهم في القرن العشرين، وهي أكبر صفقة بيع أسلحة في تاريخ بريطانيا، وبلغت حدا مذهلا من حيث الحجم والتعقيد وقدرت قيمتها بأكثر من 10 مليارات جنيه إسترليني للقائمة الأولية للأوامر، مع توقعات لتخطي قيمة الصفقة 40 مليار جنيه إسترليني قرب نهايتها، وشملت قائمة الطلبات الأولية 50 طائرة جديدة من فئة "تورنيدو"، و60 أخرى من فئة "هاوك"، إضافة إلى 80 طائرة هيلوكوبتر وعدد من كاسحات الألغام.
 
كانت هناك فروق كبرى(5) بين اليمامة الأولى والثانية، ففي حين أن اتفاقية 1986 نصت على حزمة أسلحة بعينها، كانت اتفاقية عام 1988 أشبه بقائمة تسوق يمكن للسعوديين الاختيار منها وقتما شاؤوا، لكن الملفت في تلك الصفقة أن تنفيذها بشكل فعلي كان عليه أن يتأخر بضعة أعوام بسبب اندلاع حرب الخليج الثانية والغزو العراقي للكويت، وإفراج الولايات المتحدة عن العديد من حزم الأسلحة المعلقة للمملكة، فضلا عن الإرهاق الذي عانته خزائن الرياض بفعل تكاليف الحرب، ونتيجة لذلك ظلت خطوط إنتاج "تورنيدو" البريطانية شبه معطلة حتى عام 1991، ودخلت شركة "بريتيش إيروسبيس" المصنعة للمقاتلة في حالة ركود غير مسبوق واستقال رئيسها، قبل أن تقدم السعودية فجأة على تفعيل صفقة اليمامة عام 1992 بقائمة مشتريات بقيمة 1.5 مليار جنيه إسترليني كانت كفيلة بالإبقاء على خط تورنيدو قيد العمل بعد أن كان على بعد أسابيع قليلة من الإغلاق الكامل.
  
تجارة الموت
 
تم إنقاذ "بريتش إيروسبيس" في نهاية المطاف، وحصلت صفقة اليمامة الثانية على الزخم المطلوب، وبحلول عام 1998 تسلمت المملكة من بريطانيا ما مجموعه 110 طائرة "تورنيدو"، جنبا إلى جنب مع 90 طائرة هاوك و50 طائرة من فئة "بلاتوس"، ولكن مع كون المملكة قد دفعت قيمة هذه الصفقات عبر النفط ظلت القيمة الإجمالية لصفقة اليمامة غير معروفة، غير أن تقديرات تشير أن القيمة الإجمالية للصفقة على مدار عقدين تخطت 40 مليار جنيه إسترليني كما ذكرنا.
     
رغم ضخامة هذا الرقم، سواء بالنسبة للرياض، أو بالنسبة للمجمع العسكري الصناعي الناشئ في لندن، لم تكن اليمامة نهاية عقد التسلح المفتوح بين بريطانيا والسعوديين، فمع قدوم حكومة حزب العمال الجديد، ورغم أن غبار التحقيقات حول فساد اليمامة كان لا يزال يملأ الأجواء، فإن إدارة "توني بلير" سارعت إلى توقيع مذكرة تفاهم ضخمة لبيع السلاح إلى السعودية، وهذه المرة كانت الصفقة تدور حول الجيل الجديد من المقاتلات البريطانية "تايفون يوروفايتر"، حيث أرادت بريطانيا بيع 72 وحدة من المقاتلة الجديدة إلى المملكة في صفقة كان من المرجح أن تتخطى قيمتها 10 مليارات جنيه إسترليني آنذاك.
 
عرفت الصفقة الجديدة باسم "السلام"، وكما العادة كان المستفيد الأكبر من الصفقة هي شركة "بريتيش إيروسبيس" في ثوبها الجديد بعد اندماجها مع شركة "ماركوني" للأنظمة الإ لكترونية تحت اسم "بي إيه إي سيستمز"، والتي تحولت إلى أكبر شركة أسلحة في بريطانيا مع حصة تبلغ 37% من ائتلاف تصنيع المقاتلة الأوروبية، ولكن السعودية اشترطت على الحكومة البريطانية أن تتدخل لإيقاف تحقيقات اليمامة قبل إبرام الصفقة الجديدة، وطلبت المملكة وساطة السير "شيرارد كوبر كولز" السفير البريطاني في الرياض والذي ضغط على مكتب مكافحة الاحتيال لإسقاط تحقيقات اليمامة.
 
إلا أن تدخل السير لم يكن كافيا دون تدخل(6) "توني بلير" بشكل شخصي للتوسط لدى المدعي العام مطالبا بإغلاق التحقيق ومحذرا من إمكانية عرقلة التحقيق للمفاوضات المتقدمة مع السعوديين حول مقاتلات "تايفون"، وبالفعل مع مطلع عام 2008 كانت بريطانيا قد أغلقت تحقيقات اليمامة تحت دعاوى الأمن القومي، بينما كوفئ "كوبر كولز" بتعيينه من قبل "بي إيه إي سيستمز" مديرا للأعمال الدولية في الشرق الأوسط.
 
تم تفعيل مذكرة صفقة "السلام" في نهاية المطاف، ولاحقا خلال العقد التالي تسلمت المملكة بالفعل حصتها كاملة من طائرات "تايفون" التي تشكل جزءً كبيرا من قوة سلاح الجو الملكي السعودي إلى اليوم. وعلى مدار السنوات التالية انخرط(7) البريطانيون والسعوديون في عدة برامج عسكرية ضخمة، على رأسها برنامج وزارة الدفاع البريطانية لتسليح الجيش السعودي "موسداب"، إضافة إلى برنامج اتصالات الحرس الوطني السعودي "سانجكوم"، ورغم أن كلا البرنامجين كانا يداران من قبل وزارة الدفاع البريطانية، فقد تم تمويلهما بالكامل من قبل الرياض بما في ذلك رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين في لندن والمملكة، وتكاليف التشغيل وفواتير السفر والاتصالات والتدريب والبدلات، وذلك عبر فواتير سددتها السعودية للحكومة البريطانية مباشرة.
 
وقد أفادت تقارير صادرة في عام 2015 أن تكلفة برنامج "موسداب" بلغت 55 مليون جنيه إسترليني في ذلك العام، تم إنفاقها على تشغيل هيكل إداري مكون من 77 موظفا مدنيا و35 عسكريًا في بريطانيا و3 موظفين مدنيين و61 عسكريًا في السعودية، بينما تشكل الهيكل الإداري لـ "سانجوم" من موظفين اثنين مدنيين و20 عسكريا في بريطانيا، إضافة إلى 34 موظفا مدنيا توظفهم وزارة الدفاع البريطانية في السعودية.
 
ساعدت هذه الأطر الهيكلية الجديدة في إبقاء العلاقات العسكرية بين الرياض ولندن صامدة في مواجهة العديد من المنعطفات الصعبة، وأهمها الانتقادات التي لاحقت الحكومة البريطانية بسبب استمرارها في تزويد السعوديين بالأسلحة حتى بعد شنهم للحرب المدمرة في اليمن منذ عام 2015، حيث تشير تقديرات أن شركات الأسلحة البريطانية حصلت(8) على عقود بقيمة 6 مليارات جنيه إسترليني من المملكة العربية السعودية خلال سنوات الحرب المدمرة في اليمن، تم توقيع معظمها في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق "ديفيد كاميرون"، وهي حكومة شهد زمنها نفوذا غير مسبوق للسعوديين على السياسة البريطانية.
 
وعلى الرغم من الضغوط المستمرة التي تتعرض لها الحكومة البريطانية لوقف إمداد الأسلحة والذخائر للحرب السعودية في البلد الجنوبي الفقير، وأبرزها حملة مناهضة تجارة الأسلحة المعروفة "كات" التي تسعى لاستصدار أمر من المحكمة العليا في لندن لوقف تراخيص تصدير الأسلحة إلى السعودية، رغم كل تلك الضغوط لا تظهر دينامية تجارة الموت الحاكمة لعلاقة بريطانيا مع الرياض أي علامة على التراجع إلى اليوم، وقد بدا ذلك واضحا خلال زيارة ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" إلى بريطانيا في مارس/أذار الماضي، حيث هيمنت صفقات الأسلحة على جميع عناوين الزيارة، مع أنباء(9) عن توقيع ولي العهد اتفاقا مع الحكومة البريطانية للحصول على 48 وحدة جديدة لطائرات "تايفون"، وهو عقد منح قبلة الحياة من جديد لـ "بريتش إيروسبيس" أو بمسماها الجديد "بي إيه إي سيستمز"، الشركة الضخمة التي تمثل القوة الكامنة وراء الكواليس، والمتحكمة فعليا في مسار العلاقات البريطانية السعودية على مدار نصف قرن فائت من الزمان.
 
سياسة "الباب الدوار"
 
من الناحية النظرية، يبدو أن جميع عقود الأسلحة التاريخية السابق الإشارة إليها تم إبرامها بين حكومتي السعودية وبريطانيا، بيد أنه، وفي خلفية المشهد كان يبرز اسم المستفيد الأكبر من كل هذه الصفقات على مدار تاريخ هذه العلاقات، وهي شركة الطيران الوطنية البريطانية "بريتيش إيروسبيس"، التي تأسست عام 1977 كشركة دفاع مملوكة للدولة لتلبية طموحاتها في إنتاج وتصدير الأسلحة، قبل أن يتم تحويلها(10) مطلع الثمانينيات بموجب القانون البريطاني إلى شركة مساهمة محدودة، حيث باعت الحكومة تباعا أسهمها على دفعتين آخرهما عام 1985، مبقية على حصة ذهبية مقدارها جنيه إسترليني واحد تمنحها حق الاعتراض على أي سيطرة أجنبية على مجلس إدارة الشركة.
 
كان عقد اليمامة إذن هو أول صفقة كبيرة للشركة البريطانية الناشئة التي تم إنشاؤها كذراع للدبلوماسية نصف الناعمة للحكومة البريطانية، لذا لم يكن من المستغرب أن تتدخل "مارغريت تاتشر" بنفسها لتسهيل الصفقة، على الرغم من أن جزءً كبيرا من المفاوضات تم تسهيله من مختص مبيعات الأسلحة البريطاني الشهير "ديك إيفانز" والذي تمت مكافأته لاحقا بتوليه مجلس إدارة الشركة الصاعدة.
 
تدريجيا، كانت "بي إيه إي سيستمز" وغيرها من شركات الأسلحة تجتذب حصصا أكبر من الموازنة الدفاعية لبريطانيا التي أصبحت أكثر اعتمادا على الخدمات الدفاعية الخاصة التي تقدمها
  
على مدار السنوات التالية، كان عملاق الأسلحة البريطاني يثبت نفسه عالميا بفضل الصفقات السعودية في المقام الأول، في الوقت الذي رسخت فيه بريطانيا توجها جديدا في سياستها العسكرية فوضت بموجبه الجزء الأكبر من مهام صناعة وتطوير الأسلحة وإعداد برامج التدريب والصيانة إلى متعاقدين خاصين، متعاقدين صاروا يحظون بحصص متزايدة من الإنفاق والعقود الحكومية ما أدى إلى انتعاش صناعة الدفاع الخاص في بريطانيا، خاصة في عهد حكومة "جون ميجور" المحافظة مطلع التسعينات، ولاحقا خلال عهد حكومات حزب العمال الجديد بقيادة "توني بلير" و"جوردن براون" اللذين حكما البلاد منذ منتصف التسعينات وحتى نهاية العقد الماضي.
 
استفادت "بيرتيش إيروسبيس" من هذا المناخ لترسيخ وضعها كشركة عالمية لصناعة الأسلحة ومورد عالمي للسلاح للعديد من دول العالم وفي مقدمتها الولايات المتحدة نفسها، خاصة حين أعادت الشركة طرح نفسها أواخر التسعينيات بعد اندماجها مع شركة ماركوني للأنظمة الإلكترونية تحت اسمها الجديد "بي إيه إي سيستمز"، موسعة قائمة أنشطتها لتشمل صناعة الطائرات وبناء السفن والعربات المدرعة والذخائر ومنتجات الدفاع الإلكترونية وغيرها من حزم الأسلحة والمعدات العسكرية، لتصبح بسرعة أكبر شركات الدفاع في بريطانيا، وثالث أكبر شركات تصنيع الأسلحة في العالم بأسره.
 
تدريجيا، كانت "بي إيه إي سيستمز" وغيرها من شركات الأسلحة تجتذب حصصا أكبر من الموازنة الدفاعية لبريطانيا التي أصبحت أكثر اعتمادا على الخدمات الدفاعية الخاصة التي تقدمها هذه الشركات أكثر من أي دولة أخرى في أوروبا، وأدى ذلك مع مرور الوقت إلى تشكل(11) مجمع عسكري صناعي اكتسب نفوذا واسعا على الحكومات البريطانية المتعاقبة التي سخرت جهودها لتأمين ودعم صفقات الأسلحة، جهودًا تتراوح بين دعم معارض الأسلحة، مرورا بتسخير ملحقيات الدفاع والقنصليات والسفارات للترويج لتلك الأسلحة، وصولا إلى تدخل الوزراء وأمراء العائلة المالكة لدفع صادرات الأسلحة خلال اجتماعاتهم مع القادة الأجانب.
  
أحد أبرز النماذج على هذا الوضع كانت فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق "توني بلير" الذي سخر نفوذه الشخصي لدعم صفقات الأسلحة الخاصة بشركة "بي إيه إيه سيستمز"، وكان رئيس الشركة "ديك إيفانز" آنذاك على رأس قائمة محدودة من الرجال الذين يستطيعون رؤية "توني بلير" مباشرة بمجرد الطلب، ففي عام 1997 ضغط(12) بلير على رئيس جنوب إفريقيا "ثابو مبيكي" لإبرام صفقة لطائرات هاوك، ولاحقا في عام 2000 تجاهل رئيس الوزراء انخراط زيمبابوي في نزاع عسكري في الكونغو الديمقراطية وقام بدعم صفقة لقطع غيار طائرات هاوك، ولاحقا في عام 2001 وافق بلير على ترخيص نظام مراقبة جوية عسكرية إلى تنزانيا رغم معارضة البنك الدولي، ناهيك عن صفقات أخرى توسط فيها بلير مع الهند والمملكة العربية السعودية ودول أخرى.
 
غير أن نفوذ المجمعات العسكرية الصناعية في بريطانيا لم يقتصر على قدرتها على تأمين الدعم من الساسة والبيروقراطيين الحكوميين لإنهاء صفقات الأسلحة بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى للسياسة أو لحقوق الإنسان، ففي بريطانيا على وجه الخصوص تم خلق دينامية فريدة للتفاعل بين شركات الأسلحة ووزارة الدفاع ووحدات مشتريات الأسلحة الذين يتبادلون مواقعهم في تلك الدينامية الفريدة.
 
تعرف هذه السياسة باسم سياسة الباب الدوار(13)، وهو مفهوم رائج في بريطانيا مفاده أن يتولى الوزراء والمسؤولون الحكوميون وأعضاء القوات المسلحة وظائف في قطاعات صناعة الأسلحة، بينما ينتقل المديرون التنفيذيون في الصناعة لشغل وظائف في الحكومة أو تتم إعارتهم إلى مناصب حكومية، وتساعد هذه الدينامية الفريدة في الحفاظ على الروابط بين الحكومة والمجمعات الصناعية، وغالبا ما يتم رعاية عقود الأسلحة ومصالح الشركات عبر هذه الطريقة.
 
ووفقا لهذه الآلية، هناك قائمة طويلة من وزراء ومسؤولي الدفاع الذين لعبوا دورا في إبرام المشتريات العسكرية للدولة البريطانية، وتم انتدابهم بعد نهاية خدمتهم للعمل مع صناع الأسلحة، وتضم القائمة أسماءً مرموقة مثل "مايكل بورتيلو" وزير الدفاع بين عامي 1995-1997 والذي تم تعيينه في عام 2002 كمدير غير تنفيذي لـ "بي إيه إي سيستمز" كمكافأة له على دوره في تأمين العقود للشركة أثناء وجوده في منصبه، إضافة إلى "روجر فريمان"، وزير الدولة لشؤون المشتريات الدفاعية بين عامي 1994-1995 الذي تم تعيينه كرئيس لمجلس إدارة الفرع البريطاني لعملاق الدفاع الفرنسي "ثالس"، وعلى رأس القائمة بالطبع يتربع "جوناثان أيتكن" وزير المشتريات الدفاعية الأسبق الذي تم الحكم عليه السجن بتهمة تلقي عمولات غير شرعية في صفقات بين شركات الأسلحة وبين المملكة العربية السعودية، بعد أن ثبت قيامه بإخفاء 4 ملايين جنيه إسترليني في حسابات مصرفية سرية، تم نقلها إليه من قبل أمير سعودي.
 
على الجانب الآخر، هناك(14) أكثر من 10 مديرين تنفيذيين من شركة "بي إيه إي سيستمز" وحدها تمت إعارتهم لوظائف في وزارة الدفاع ووحدات مشتريات الأسلحة في هيئة التجارة والاستثمار البريطانية على مدار السنوات الماضية، فضلًا عن عشرات المديرين الآخرين الذين تم انتدابهم من سائر أعضاء مجمع الصناعات العسكرية للعمل في الحكومة، وعلى وجه التحديد في منظمة تصدير خدمات الدفاع المعروفة باسم "ديسو"، وهي هيئة حكومية تابعة لوزارة التجارة وهدفها هو مساعدة صانعي الأسلحة على بيع منتجاتهم للعملاء في الخارج، وتنسيق الدعم الحكومي المباشر لصادرات السلاح، وتوفير المساعدة التسويقية والمشورة بشأن ترتيبات التفاوض والتمويل، فضلا عن تنظيم معارض الأسلحة والجولات الترويجية، وغالبا ما يتم إعارة رؤساء "ديسو" من صناع الأسلحة الكبار في الولايات المتحدة مما يعطي الشركات نفوذا مباشرا وقويا في قلب الحكومة.
 
الدائرة المفرغة
   
كان هذا النفوذ باديا بوضوح في نبرة صوت "روجر كار"، رئيس "بي إيه إي سيستمز" حين وقف بفخر متحدثا(15) إلى مساهمي شركته منتصف عام 2016 حول كون بيع الأسلحة يمثل خطوة حيوية في تعزيز وتأمين السلام الدائم، فمن وجهة نظر "كار" كانت مهمة شركته هي تزويد الحكومة البريطانية وحلفائها بأفضل "العُصي" التي يمكن استخدامها من أجل تشجيع السلام.
 
على مدار الأشهر السابقة والتالية لخطاب "كار" المشار إليه، كانت عُصي عملاق الأسلحة البريطاني من طائرات مقاتلة وذخائر موجهة تتساقط بالفعل فوق رؤوس المدنيين لتحقيق «السلام» المذكور في اليمن: سلام تنغصه فقط جملة حقائق بسيطة يعرفها "كار" جيدا لكنه لا يرغب على الأرجح في الاستماع إليها، قائمة حقائق تشمل أكثر من 11 ألف قتيل يمني، و8 ملايين شخص يواجهون خطر المجاعة، وأكبر تفش لوباء الكوليرا في العالم.
 
لكن أيا من ذلك لا يبدو أنه يعني الكثير بالنسبة إلى "كار" أو حلفائه الحكوميين، فهنا على وجه التحديد تحضر أرقام أكثر أهمية، وهي أرقام الميزانيات العسكرية المتضخمة وخطط توسيع الإنفاق العسكري التي لا تبالي بالوضع الاقتصادي الهش الذي تعانيه الرياض ولا بالوضع المأساوي في اليمن، أرقام يبقى العملاق البريطاني وحكومته على رأس المستفيدين منها. ففي الوقت الذي تحذر فيه تقارير المخاطر الصادرة عن الشركة من اتجاه العديد من المشترين الحكوميين إلى تخفيض ميزانياتهم العسكرية، تخفيضات اضطرت معها(16) الشركة العملاقة إلى خفض كبير في وظائفها عام 2017، فإن حكومة كالسعودية تخوض حربا مفتوحة كحرب اليمن مع ميزانية مضطردة للتوسع العسكري تمثل فرصة لا تقدر بثمن.
 
على الجانب الحكومي لا يختلف الوضع كثيرا، فمع فقدان لندن للامتيازات التي تمنحها إياها السوق الأوروبية في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي، تصبح أولوية(18) حكومة "تيريزا ماي" الحالية هي البحث عن مصادر جديدة للدخل لتعويض المنافع المفقودة، وتعد تجارة الأسلحة مع دول الخليج الثرية بما تضخه من وظائف وعائدات ضريبية ومنافع أخرى متنوعة في الاقتصاد البريطاني الحل الأمثل لسد هذه الفجوة.
 
ومع زيادة نهم النظام السعودي لاقتناء أحدث الأسلحة مهما كلفته لدعم سياساته المتهورة في المنطقة، ومع تعطش لندن الشديد للمال القادم من تجارة الموت، ومع استمرار هيمنة مجمعات التصنيع العسكري على القرار السياسي وابتزاز المجتمع والسياسيين بالوظائف والعوائد التي تخلقها صناعة الموت، لا يمكن لأحد أن يتنبأ أن تلك الدائرة المفرغة لمقايضة المدفع والدولار يمكن أن تنتهي في وقت قريب، مهما كلف ذلك من ضحايا سواء أكانوا من اليمنيين الذين يُقتلون بالأسلحة البريطانية "الذكية"، أو حتى من السعوديين الذين تهز تداعيات الحرب ديارهم الآمنة، إن لم يكن بالصواريخ، فبالفواتير الباهظة التي يدفعونها من أموالهم كل يوم لتمويل حرب تشارف أن تتم عامها الرابع ولا تظهر أي علامة الانتهاء.
 


التعليقات