لماذا يغلب الشجن والحزن على الألحان والأنغام الصادرة عن الذات العربية؟
- القدس العربي الأحد, 15 أبريل, 2018 - 11:37 مساءً
لماذا يغلب الشجن والحزن على الألحان والأنغام الصادرة عن الذات العربية؟

جاذبية الموسيقى وأثرها على النفس والتناقض الكبير في المراوحة بين تأثيرها المفرح والحزين، موضوعات ظلت مطروحة على مر العصور منذ أبقراط وأرسطو والفارابي، وقد ظلت الرنات العذبة التي ابتكرها مبدعو الموسيقى بلسما يروي الأرواح وتطرب له النفوس وتبتهج به القلوب. وعلى مر الزمن ظلت الموسيقى تسنيما خارج الزمان والمكان، يهفو له كل فؤاد جريح وتنجذب لسحره كل روح ظمأى وكل نفس كليمة. وإذا كانت الموسيقى تستخرج خبء الحزن الكامن في الذات البشرية فإن لها استخداماتها الأخرى في علاج الأمراض العصبية وتهدئة النفوس المنكوبة التي طحنها ألم الحياة ودهستها الأقدار والحظوظ السيئة في معركة الحياة.
 
تقول كونسيتا تاماينو الناقدة الموسيقية والطبيبة المتخصصة في العلاج بالموسيقى «إن بنية الموسيقى ومحتواها الشعوري ومخزونها العاطفي المتدفق يساعد مرضى التوتر والتعصب، على النفاذ إلى هذه الوظائف مجددا وجعلها تنبعث وتتوهج بعد انطفائها».
 
ويعد العالم والفيلسوف المسلم الفارابي الذي اشتهر أيضا بالطب أحد أكبر المنظرين عن العلاج بالموسيقى، ويشتهر بنظرية «الفيض» ونظرية «معاني الفكر» اللتين يناقش فيهما الآثار العلاجية للموسيقى وتأثيرها المبهر على الروح.
 
ومن المعروف أن أبقراط، أب الطب اليوناني، كان يعزف الموسيقى لمرضاه المصابين بعلل نفسية ويستعين بها لعلاجهم، كما كان الفيلسوف أرسطو يصف الموسيقى بأنها «القوة السحرية التي تطهر العواطف والمشاعر».
 
لكن الغريب، حسب باحثين متتبعين للموسيقى وتأثيرها، هو ما يلف الطرب العربي عموما من ألم وحزن عميق، والغريب أيضا هو تفاعل الإنسان العربي مع الموسيقى في كثير من مقاماتها، بكثير من الآهات الحزينة والتأوهات العميقة الدالة على التألم أكثر من دلالتها على الطرب والنشوة.
 
في معالجة تحت عنوان «طربنا الأليم» يقول شاعر موريتانيا والباحث آدي آدبه «للفن الموسيقي مقامات، تتناسب مع الأمزجة النفسية، والأحوال الروحية؛ قبضا وبسطا، فرحا وترحا، أملا وألما، طربا وحزنا، لكننا، نحن العرب، يغلب على موسيقانا الشجن، والحزن، أداء، وتلقيا، فالأصوات، والألحان، والأنغام، الصادرة من الذات العربية عموما، تنبعث من جب الروح العميق، ذات حمولة كبيرة من الألم، فتأتي كما لو كانت عويلا، ونحيبا، وتستقبلها الذائقة الفنية لدى المتلقين منا بما يطابق تلك الرسالة الفنية، من تأوهات، وصراخات، ودموع، ونشيج».
 
وتشهد لذلك عندنا، نحن الموريتانيين، يضيف الشاعر الباحث آدبه، لغة التعبير عن ردات الفعل على إجادة المغنى، في «رداته» الغنائية، والموسيقية، و «طربه» المزعوم، في نظرنا، حيث نمطره بأنين مكتوم، وآهات، أو بصرخات الألم الدفين، والوجع الكظيم، بحيث تغلب «الهحات: هح.. هح…»- التي يسميها الشاعر العربي القديم: ذو الرمة غيلان مية بـ «الوحاوح» الدالة على الشكوى والتوجع- صوت «الآحات: آح.. آح…» الدالة على الطرب والتمتع».
 
وأضاف «حتى لو حاولنا أن نشوش على دلالة الألم الضاجة ملء هذه التعابير، ونخون في ترجمتها، هاتفين، بين الفينة والأخرى، بأن هذا الغناء/ البكاء (زين… زين) وحتى لو أقسمنا على ذلك جهد أيماننا، كما نفعل دائما، فإن لغة الجسد غالبا، تخذل التعبير عن الطرب أداء وتلقيا، حيث يتبادل كل من جسم المغني/ المطرب= المرسل، وجسم المتمتع/ المتوجع= المرسل إليه، إلى موجات من التشنج العصبي، عبر تفاعلهما الخلاق؛ فكلاهما يتمعر وجهه متقبضا، ويتلون غير منشرح، ويتلوى جسده موحيا بالتوجع أكثر من التمتع».
 
وظاهرة الطرب الأليم عامة وليست خاصة كما يرى الباحث، فبعض الأغاني العربية، حسب تحليله، يقع من يؤدونها فيما يشبه انفصام الشخصية، حيث يحاولون إقحام الابتسام على جو أغنية حزينة الكلمات، شجية اللحن، وهذا لا يقل نشازا عن إقحام تجهم الوجه، وشجن الغناء، على أغنية طربية الكلمات واللحن. وحتى الرقص، الذي قلت ذات سياق آخر، إن الجسد لا يبتدعه لغة تعبيرا إلا «حين يداهم إحساس الراقص من الانفعال بالنغم ما لا تحتمله أصوات جهازه اللغوي، فتنطق كل ذرة من كيانه بلغة الجسد الأفصح في هذا المقام» حتى هذا الرقص يبدو لدينا أقرب إلى «رقصة الذبيح» الأليمة، منه إلى التعبير عن بلوغ حالة «النيرفانا» الطربية المشرقة الباذخة البهيجة السعيدة.
 
ويتابع الشاعر آدبه تشخيصه لآلام الطرب «أقول، أن الإنسان عموما رافقه شعور الغربة والفقد الذي ورثه من أبويه: آدم وحواء؛ منذ أن هبطا من نعيم الجنة، إلى مكابدة العيش على الأرض، ومعاناة قلق الوجود، والمصير، ولعل نصيب العرب، من ميراث الفقد هذا كان أكبر من غيرهم، فهم من قديم يشعرون، تاريخيا، بفقد الزمن الجميل؛ زمن المجد والتفوق الحضاري، وهم، جغرافيا، يشعرون بضياع الفردوس المفقود، وتسكنهم، حديثا، نكبة النكبة، أما اليوم، فكل أوطانهم أطلس كبير لخرائط الوجع».
 
ويصل في آخر المعالجة لنوع من التفويض فيقول «على كل حال قد يكون هذا الانفصام في الإحساس والتعبير حالة طبيعية، حين يتنازعك، الجمال العجيب، والخطر الرهيب، في الوقت نفسه، فيتصارع في كينونتك الألق والقلق، والطرب والرهب، فيلتبس التعبير بالتباس الإحساس بين نشيج الغناء، وشدو البكاء».


التعليقات