الأوبرا بعهد الخديوي.. كيف تغير ثقافة شعب عبر الفن؟
- الجزيرة نت السبت, 12 مايو, 2018 - 04:34 مساءً
الأوبرا بعهد الخديوي.. كيف تغير ثقافة شعب عبر الفن؟

[ الأوبرا بعهد الخديوي ]

يمكن تعريف الإمبريالية بأنها الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية لدولة على دولة أخرى، لكن التاريخ يخبرنا أنها أكثر توسعا من ذلك، وأن الهيمنة قد تأتي من حيث لا نتوقع، وقد لعبت الإمبريالية دورا كبيرا في تشكيل العالم المعاصر، وسمحت بسرعة انتشار الأفكار والتقنيات وساهمت في تشكيل عالم أكثر عولمة كالذي نحيا فيه الآن. ينظر التقرير التالي إلى الثقافة والفنون تحديدا ودار الأوبرا المصرية خصيصا وتاريخ إنشائها والظروف التي أحاطت بها ليكشف هل كان تأسيسها من أجل الفن والذوق أم أن هناك أغراضا خفية أخرى.
 
نص التقرير
 
يطرح انطلاق دار الأوبرا السلطانية الجديدة في مسقط (أول دار أوبرا في منطقة الخليج العربي) ومتحف اللوفر الجديد في أبوظبي أسئلة بالغة الأهمية؛ هل تُعدّ هذه المؤسسات الجديدة أدوات أخرى للهيمنة الغربية، أم أن هذه الأماكن الثقافية وما تقدمه تتوافق مع الحياة الاجتماعية الإسلامية والعربية؟
 
قال المنظّر والباحث إدوارد سعيد إن إنشاء دار الأوبرا الخديوية في القاهرة كان ضربا من الحماقة، وإن أوبرا عايدة كانت أوبرا استعمارية، وكاد كتابه "الثقافة والإمبريالية" (1993) يساوي بين الثقافة الأوروبية والهيمنة الأوروبية.
 
الأوبرا الاستعمارية
 
ومنذ ذلك الحين، لعبت هذه الفكرة حول المكون الثقافي للإمبريالية دورا مهيمنا في الدراسات المتعلقة بالإمبراطورية الأوروبية. وفي حين رفض عدد من خبراء الأوبرا منذ ذلك الحين الاعتراف باسم "الأوبرا الاستعمارية"، تظل فكرة الثقافة كمجال للإمبريالية والاستعمار مهمة في البحث العلمي. واتباعا لمنطق سعيد، علينا أن نستنتج أن المنشآت الثقافية الجديدة التي تُشَيَّد اليوم في الخليج تمثل الهيمنة الغربية. لكنّ السؤال نظري للغاية، وللتاريخ قصة أخرى أكثر روعة وإثارة للاهتمام ليخبرنا إياها.
   
يُطلق المصريون على القاهرة اسم "أم الدنيا"، وبدا هذا الوصف ملائما للغاية في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر؛ ففي هذين العقدين، تدفق رأس المال والتكنولوجيا والوفود من الأجانب إلى القاهرة، ومن القاهرة انتشروا داخل مصر بأكملها. وفي هذا العصر تجمعت الأعمال في قناة السويس، والمنافسة البريطانية/الفرنسية، والباشوات الأغنياء والمؤامرات العثمانية في جو كبير مثير للغاية.
 
وفي خضم كل ذلك في مساء يوم أحد من فبراير/شباط عام 1870، جلس صحفي مسلم شاب يُدعى محمد أنسي في دار الأوبرا الخديوية ليشاهد أوبرا سميراميس للموسيقار الإيطالي روسيني؛ فأدرك على الفور العلاقة بين المسرح واللغة والروح الوطنية وما تحمله من تأثير كبير. وكتب في تقييم للعرض: "آه لو تُرجمت هذه الأعمال البديعة إلى اللغة العربية بنجاح وعُرضت في المسارح المصرية باللغة العربية باعتبارها نوعا إبداعيا جديدا، قد ينتشر الذوق المسرحي بين الجماعات المحلية، لأن هذا المكون الثقافي الوطني هو ما سهّل تقدم الدول الأوروبية وساعد في تحسين ظروفها الداخلية".
   
لذا هل يمكن ببساطة مساواة تغلغل الثقافة الغربية في الشرق الأوسط بالإمبريالية الأوروبية؟ وهل هذه هي البرجوازية الأوروبية التي وصفها ماركس بأنها "تخلق عالما يتفق وصورتها"؟ دعونا في البداية نفكر في مسألة السلطة والهيمنة. كانت دار الأوبرا الخديوية والأماكن الثقافية الجديدة على الطراز الغربي تمثل السلطة بالنسبة إلى الناس العاديين في شوارع القاهرة. وكانت نية الدول الأوروبية في فرض مصالحها الاقتصادية على الإمبراطورية العثمانية -بما فيها مصر- واضحة أيضا خلال التاريخ الحديث، إليك قناة السويس مثلا.
   
الأوبرا للنخبة
 
غير أن خطورة نسب التغيير إلى أوروبا -عسكريا كان أم ثقافيا أم تقنيا- تكمن في تقليل المرء من تقدير الدور المحلي وإنكاره تماما في نهاية المطاف. في الواقع، في ستينيات القرن التاسع عشر في مصر، كانت دار الأوبرا ترمز إلى قوة النخبة الحاكمة العثمانية المحلية، وكان الحاكم إسماعيل باشا هو الذي أمر بذلك ودفع ثمنه قبل الاحتلال البريطاني في مصر عام 1882 بكثير.
   
ثم إن استخدام المثقفين المحليين والناس العاديين لهذه الأماكن الثقافية يحدد في النهاية إلى من تعود الرؤى التي تجسدها هذه العروض، حيث يُلقي التاريخ الاجتماعي لهذه المؤسسات والأفكار التي تحركها المزيد من الضوء على وظيفتها النهائية في المجتمع أكثر مما تفعل لحظة تأسيسها في الماضي البعيد.
 
وصحيح أن أتباع سعيد قد يقولون إنه على الرغم من حماس أنسي للأوبرا، فإنه كان هو والخديوي إسماعيل باشا يعملان باعتبارهما وسيطين للنخبة الأوروبية، وإن ارتباط أنسي بأشكال جديدة للتعبيرعن الذات هو مجرد وهم. للوهلة الأولى، قد يكون منطقيا التساؤل ماذا يمكن أن يكون أفضل في إرضاء الخيال الغربي المستشرق من صحفي مسلم يشاهد الأوبرا الإيطالية في القاهرة؟ لكن علينا أن ننظر أعمق لاكتشاف من توجه سلطته هذه الاتجاهات الثقافية.
 
مشاريع وطنية
 
كان أنسي مدرسا شغوفا بالعربية ورجل أعمال صغيرا جرّب سوق الكتب المطبوعة المزدهر في القاهرة في ستينيات القرن التاسع عشر. وكان والده أبو السعود مترجما في خدمة الحكومة ومحرر المجلة التي ظهرت فيها مقالة أنسي عن عرض سميراميس. وفي عام 1872، تعاون أنسي مع مدرس إيطالي واقترح على الحكومة إنشاء مدرسة لتعليم الفنون الدرامية للشباب المصري. وفي هذه الأثناء، قدّم جيمس سانوا -وهو يهودي مصري إيطالي- اقتراحا بإنشاء فريق مسرحي عربي متخصص.
 
لم ينجح أي من هذين المشروعين المتنافسين في تحقيق النتائج المرجوة؛ ولم يكن ذلك بسبب الاستعمار الأوروبي، بل لأن إسماعيل باشا لم يكن مهتما، وربما نظر إلى هذه الاقتراحات باعتبارها مزعجة للغاية ووطنية للغاية وربما سياسية للغاية كذلك! وكل ذلك يُظهر أن محمد أنسي لم يكن واقعا تحت سحر افتتان أعمى بالمنتجات الأوروبية النخبوية، بل أنه كان عاملا نشطا في التغيير ولكنه لم يحصل في النهاية على دعم من حكومته.
 
انتقال الثقافة عبر البحار
 
دعونا نخطو خارج دار الأوبرا قليلا، يجب أن نفهم "الثقافة" باعتبارها إطار عمل أكبر وأكثر فوضوية. فقد كانت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط آنذاك ​​سوقا ثقافيا للفنانين؛ من العرب والأرمن والأتراك والإيطاليين والإغريق والفرنسيين. وجسّدت الثقافة الحضرية طرقا مختلفة لقضاء وقت الفراغ، بمعزل عن الفصل الاجتماعي مثل أغاني العاملين المحليين والأوروبيين الفقراء، والبحارة والجنود في الحانات وبيوت الدعارة، وصالونات التجار الأغنياء، والمسارح ودار الأوبرا الحكومية في القاهرة.
  
وجعلت الاختراعات التكنولوجية وخاصة السفن البخارية الرخيصة المتجهة للشرق الأوسط الجولات المسرحية الإيطالية والفرنسية والعثمانية والعربية ممكنة من خلال تسهيل نقل الممثلين والمغنيين والأدوات والأفكار عبر البحر، فكانت الثقافة تجارة من نوع جديد.
    
الأوبريت العربي
نتيجة لهذا التسارع -في أواخر القرن التاسع عشر- تم تطوير اقتصاد ثقافي هجين عربي تركي (وهندي يوناني أرمني فرنسي إيطالي) للمسرح الموسيقي. وجعلت الموسيقى العربية التمثيل الأوروبي مقبولا وساهمت في قبول نوع العروض الجديد. وتم تطوير الأوبريت العربي في نسخ "منخفضة" و"مرتفعة"، التي لا تزال حاضرة حتى اليوم في العروض الموسيقية الرسمية التابعة للدولة، مثل الأوبريت الذي نُظِّم مؤخرا للقادة العسكريين الجدد والقدامى في مصر. ونجد أن السياسة العربية الحديثة تستفيد حتى الآن من ثقافة العروض المماثلة وتأثيرها على الشعوب.
 
وهكذا، كانت الثقافة في القرن التاسع عشر مجالا اجتماعيا متعدد المستويات، حيث كانت الرموز والممارسات الترفيهية تنتشر باستمرار بسبب التقنيات والطرق الإمبراطورية الجديدة. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى أنسي باعتباره محورا فعَّالا واحدا فقط من بين مليارات الروابط الرنانة الأخرى، ولا تزال الهيمنة والامتيازات والمصالح الأوروبية واضحة، وكذلك التسلسل الهرمي للسلطة. لكن مثل هذا الإطار متعدّد الزوايا يسمح لنا بالانتقال إلى ما هو أبعد من الرؤية المتشابكة للشرق مقابل الغرب، أو المستعمِر مقابل المستعمَر.
   
على ماذا قد ينطوي مستقبل الأوبرا في مسقط، ومتحف اللوفر في أبوظبي، والمساحات الفنية الجديدة الأخرى في منطقة الخليج العربي؟ إن الأمر متروك في النهاية للحكام المحليين للسماح لمواطنيهم بامتلاك المباني الجديدة وأشكال الفن، والسماح لهم بتحويلها لتناسب ذوقهم ومتعتهم الخاصة بهم. بهذه الطريقة فقط يمكن أن تتوقف الثقافة عن العمل كأداة لفرض الهيمنة.
 


التعليقات