أمي وماجدة الرومي وأنا
- عمرو مجدح - القدس العربي السبت, 08 سبتمبر, 2018 - 12:27 صباحاً
أمي وماجدة الرومي وأنا

[ ماجدة الرومي ]

في طفولتي لم أنم وأنا استمع لحكايا، وقصص سندباد وعلاء الدين والمارد، وذات الرداء الاحمر.

فقط نمت لآلاف الليالي على صوت أمي تغني « أنا عم بحلم»، ومازلت أحلم…

لم تكن ماجدة الرومي مجرد مغنية عابرة في بيتنا، وبالرغم من أنها كانت تزاحم فيروز على قلب والدتي التي ظلت مرتبطة بها في ذاكرة جميع الأهل والأصدقاء، وفي أحد الأعياد، وأنا طفل أزور أقاربي أشار أحدهم بيده نحو التلفزيون، وهو يقول جاءت والدتك، وكانت فيروز تحتل الشاشة.

في ذلك الوقت كان انتشار الأغنية اللبنانية في الخليج العربي محدودا وضيقا، بسبب انغلاق هذه المجتمعات على نفسها، لكن هناك أصوات استطاعت أن تخترق هذه البيئة منها صباح وفيروز، وفيما بعد ماجدة التي صادقت أمي صوتها مع « ماحدا بيعبي مطرحك بقلبي «، ونشرت بين المحيطين بها تلك الثقافة، واللهجة اللبنانية الغريبة عنهم.

بالتأكيد لا مجال للمقارنة بين فيروز وأي مغنية أخرى، وإن كانت خارجة من رحم التجربة الرحبانية، لكن كما القمة تتسع لأكثر من شخص كذلك القلوب، وقد تكون ماجدة معبرة أكثر في نساء جيلها مع الأثر الذي تركته أغنيات مثل لأنك عيني، كلمات، والجريدة، وكن صديقي.

في بداية التسعينيات جاءت ماجدة إلى عُمان حاملة جبال وبحر ووجع لبنان الخارج من حرب أهلية، وأنشدت راجع يتعمر لبنان، تلك الأغنية التي شاهدتها مرارا على الشاشة، وحفظتها وهي تعانق الكبير زكي ناصيف، ويأكدان بكل ثقة أن لبنان راجع أخضر اكثر مما كان.

كلمات استغرقت بضع سنين لفهم حكايتها.

مازالت أمي تذكرني يوم حزنت وبكيت وأنا طفل، لأنها لم تصطحبني معها لحضور الحفل، وتعتز بالصورة التي جمعتها بالماجدة، والتي التقطت قبل مغادرتها عُمان بساعات قليلة، وتذكر أنها تفاجأت بشخصيتها الهادئة وطبقة صوتها المنخفضة في الحديث.

كيف لتلك الحنجرة التي تشبه ثورة شعب على المسرح أن تهدئ في الصباح وتبعث السلام؟!.

لم تكن علاقتي بماجدة علاقة طفل بمغنية، بل مع شخص من أفراد العائلة صوت يرافقنا في كل مناسباتنا حتى النوم.

كبرنا وبقيت كل تلك الأغنيات في الذاكرة، وحين أستمع لبعضها أجدني أحفظها بلا وعي، وأكتشف أنها مختبئة في إحدى خانات الذاكرة، وكلما داهمني الحنين خرجت تراقصني.

على الرغم من أنها سيدة الأغنية الفصحى، إلا أنها لم تنفصل يوما عن لبنانيتها، ففي ظل تلك الحرب المجنونة التي شهدها لبنان ظهرت بوجهها الملائكي، وصوتها يعانق كلمات سعيد عقل، وموسيقى الياس الرحباني، في «عم بحلمك يا حلم يا لبنان «1980 البلد الحلم الذي حولته الحرب إلى كابوس، بيروت الأنثى الشقية الساحرة معشوقة الأدباء والفنانين ست الدنيا كما قال الدمشقي العتيق نزار قباني، ولحن ابن النيل جمال سلامة بعبقرية، وأنشدت ماجدة بصوتها الأوبرالي 1991 (يا بيروت / إن الدنيا بعدك ليست تكفينا /الآن عرفنا أن جذورك ضاربة فينا / الآن عرفنا ماذا اقترفت أيدينا).

مازال رواد مواقع التواصل الاجتماعي يتناقلون كلمة السيدة ماجدة الرومي في ذكرى جبران تويني قبل سنوات، والحزن والقهر يسكن حنجرتها لتصرخ بوجع كل مواطن لبناني، وبدون ورق ولا تحضير قالت موجهة كلامها لسياسيين :

(بعد ثلاثين عاما لم يعد يهمني أن أشهد لأي إنسان على الأرض خاصة في السياسة أشهد لربنا، أشهد لهذا الشعب المعذب الشهيد الذي يموت كل يوم ألف ميتة الذي يقع نصفه على الطريق ويواصل طريقه، لهؤلاء أشهد.

وتتابع (أنتم فتتم هذا البلد أنتم تريدونه وطنا على مقاس الطوائف والأحزاب، تريدونه بحجم الكرسي، وهو أكبر بكثير أنتم فرقتمونا وقسمتمونا وشرذمتمونا في قلب البيت الواحد أصبح هناك شهيد لنا وشهيد لهم، أنا هنا لأقول كفي اتركونا نعيش).

كم جميلا لو عشقنا فنانا يختزل بداخله وطنا يزرع في قلوب كل محبيه وردة من بلاده وهكذا هي الماجدة.

تعددت زياراتها إلى السلطنة، وآخرها كان في دار الأوبرا السلطانية في العاصمة مسقط، وقالت فيها عن عُمان وهي تتذكر لبنان : (أنا جاية من قرية لبنانية كانت فيها هذه الوداعة نفسها، وهذا السلام نفسه كان فيها لون العصافير نفسها التي تغني للدنيا كان فيها شمس حلوة وسماء زرقاء، أتألم أين وصلنا بالايقاع المجنون الذي نعيشه الله يسلم هذه الأرض).

ليست مصادفة أن تكون ماجدة الفنانة الوحيدة التي أخاف الإستماع إلى أغانيها الحزينة، ربما هو صوت أمي الساكن في حنجرتها! وأخاف أن أستمع إلى نبرته الحزينة.

كاتب من سلطنة عمان


التعليقات