في رحلة تتبع من اليمن إلى أريزونا الأمريكية
تحقيق لنيويورك تايمز يرصد من أرحب تداعيات صاروخ أمريكي أطلقته السعودية (ترجمة خاصة)
- ترجمة خاصة الخميس, 20 ديسمبر, 2018 - 10:13 مساءً
تحقيق لنيويورك تايمز يرصد من أرحب تداعيات صاروخ أمريكي أطلقته السعودية (ترجمة خاصة)

[ آثار الغارة الجوية للتحالف في أرحب ]

سلطت صحيفة "نيويورك تايمز" الضوء على إحدى الغارات الجوية التي شنتها المملكة العربية السعودية مستهدفة بئرا ارتوازيا في منطقة أرحب، وربطت في ذلك بين نوع الأسلحة التي ألقيت من الطائرات السعودية، وعلاقة الولايات المتحدة بتزويد السعودية بالأنواع المختلفة من الأسلحة.
 
التحقيق كشف أجواء ما قبل سقوط القنبلة السعودية، وركز على تداعياتها على الناس في أرحب، من خلال زيارة ميدانية لكاتب التقرير، والذي عثر على مخلفات القنابل التي ألقيت، وعاد إلى الولايات المتحدة للتواصل مع شركات التصنيع للحديث عن تجارة الأسلحة وتدفقها نحو السعودية بموافقة أمريكية.
 
المادة برمتها تسلط الضوء على كثير من الحقائق المتصلة بالحرب في اليمن، وتجمع بين الاستطلاع الميداني، والتحليل السياسي لما يجري.
 
الموقع بوست يعيد نشر المادة باللغة العربية بعد ترجمتها إلى العربية من الموقع الإلكتروني لصحيفة نيويورك تايمز.

 
نص المادة:

قبل منتصف الليل كان رجل أعمال يدعى ربيع يتحدث على الهاتف، في محاولة لتهدئة صديقه، كان ربيع يملك آلة حفر، وكان صديقه قد سمع قصصاً من أماكن أخرى في اليمن عن تفجير الطائرات في مواقع أبار.
 
في 10 سبتمبر 2016، أي بعد عام ونصف من الحرب بين السعوديين والمتمردين الحوثيين كانت تعتبر الحرب بالنسبة لربيع بعيدة ولم يكن يهمه الأمر، كان يقول إن هذه الأمور لن تحدث في منطقة فقيرة مثل منطقة أرحب، رغم أنها توجد عميقاً في منطقة المتمردين، إلا أنها لم تكن موطناً لأي شيء مهم، ولا أي أحد يهتم بالطائرة المقاتلة.
 
إلى جانب ذلك، لم تحدث أشياء مثل الغارات الجوية لأشخاص مثله، كان ربيع رجلاً خيريًا من عائلة متميزة، كان راضياً عن نفسه، وكان يتمتع بثروة كبيرة طوال حياته، ولم يكن هذا الحال على وشك التغيير، وعلى الرغم من ابتسامته المشاكسة، إلا أنه كان رجلاً ملتزماً ورجلًا صالحًا، وأصبح العثور على المياه للفقراء كل اهتمامه، حتى إنه سامح المديونين عندما لم يستطعوا الدفع، وكان قلبه الكبير يعيش على يقين، يقول: "أنا أقوم بعمل جيد ومشروع، تلك الطائرات لا تريد شيء مع رجل في طريقه إلى الله".
 
كانت أرحب تتناقص عليها المياه، ولم يكن لدى القرويين ما يكفي للشرب أو لري حقول جديدة، كانوا بحاجة إلى بئر، لكن لم يكن هناك أي كيان حكومي قادر على تنفيذ مشروع الأشغال العامة هذا، ولم يكن هناك بنك متاح لتمديد خط الائتمان، ولم يكن أي من القرويين في المنطقة، والذين معظمهم يزرعون خمسة أو 10 أمتار مربعة، لديهم أي نوع من رأس المال الذي سيستغرقونه لتمويل الحفر.
 
لذا وجد الناس من القرى المحيطة بالمنطقة حلاً خاصا بهم، حيث وضعوا نوعًا من ترتيبات الملكية المشتركة، إنهم جميعا سوف يستفيدون من الحفر وإيجاد الماء، وسيحصل كل مساهم على بضع ساعات في البئر كل أسبوع، وإذا لم ينجح التنقيب، فسيخسرون جميعًا أموالًا لا يمكنهم تحمل خسارتها، ولم يكن هناك ضمان للنجاح: كانت الأرض صعبة، وكان أفضل موقع للبئر مرتفعًا على الصخور البركانية السوداء. لقد كان ربيع سعيد متحمسًا لفرصة أن يكون الشخص الذي وجد الماء في مكان صعب.
 
كان قد بدأ قبل ستة أسابيع، وبعد 12 يومًا، انكسرت الآلة، نجح ربيع وعماله في إصلاحها وإدخالها في 400 متر تحت الأرض، قبل أن تبدأ طبقات الأرض في الانهيار، ومع تثبيت المثقاب في مكانه لمدة يوم، لم يحرز أي تقدم، ثم يومين آخرين، ثم في أسبوع، وبعد أسبوعين من الاستمرار في تشغيله، مع ارتفاع التكاليف، أخرج ربيع المثقاب وقاده عبر بضع مئات من الأمتار الأخرى حتى تسربت المياه.
 
انتشر الخبر وهلل الناس، شق بعض القرويين طريقهم إلى الموقع، لإحضار طعام لربيع وللاحتفال ببئرهم الجديد، كان العيد في اليوم التالي، لذلك شعرت قليلاً وكأنها معجزة، وبالنسبة إلى يوسف، أحد عمال الحفر، فإن التنقيب عن الماء كان يعني أنه سيعود إلى البيت لقضاء عطلته ومعه نقود، قام بعمله بالانتقال بين الحفار وشاحنة كبيرة مليئة بالماء لتبريد الآلة، ثم أخذ استراحة في مؤخرة إحدى الشاحنات.
 
وصل ابن عم ربيع، وهو قاضي شاب، كان يعمل في محكمة في عمران حتى تم قصفها، حصل على وظيفة في العاصمة، صنعاء، في محكمة المرور ولكن مع قيام السعوديين بمحاصرة البلاد، لم يكن هناك الكثير من الوقود، مما يعني قيادة أقل وعدد أقل من الحالات، لم يكن لديه أي شيء آخر للقيام به، لذلك قرر المجيء إلى أرحب، وصل مهدي أيضا، وهو رجل عجوز شاحب اختير كممثل للمساهمين، وعندما سمع حديث ربيع عن الماء، توجه إلى موقع البئر حاملاً جميع أموال القرويين لدفع القسط التالي.
 
بعد ذلك أتى فهد، وهو يمضغ القات على الجانبين من فمه بشكل مختلف عن بقية الرجال، في هذه الليلة كان أكثر نشاطًا من المعتاد، وذلك بفضل إحساسه الشديد بالراحة، وعلى الرغم من أنه لم يكن قادراً حقاً على الاستثمار في مشروع البئر، فقد شعر بأنه مضطر للمشاركة بحصة، شعر أن القرية بحاجة إليه، فأمضى شهرًا في زيارة أصدقائه وأقاربه ومحاولة وإقناعهم بمنحه قروضًا، في وقت لم يكن لديه ما يكفي، ثم طلب من زوجته أن تسمح له ببيع مجوهراتها، وقد أنقذت هذه المياه فهد وعائلته من الخسارة المالية.
 
شعر فهد بالبرد فتوجه نحو كوخ حجري قديم حيث تجمع بعض الأصدقاء، في تلك اللحظة، وعلى بعد آلاف الأقدام من فوقه، ضغط أحد الطيارين زر يرسل إشارة كهربائية إلى رف مثبت أسفل طائرته، بعدها بدأت سلسلة من القنابل تومض، وأطلقت مجموعة من الحاملات قنابلها، في حين دفعت المكابس الصغيرة القنابل بعيداً.
 
في الوقت الذي سار فيه فهد إلى الكوخ، كانت القنابل التي تصل أحجامها إلى طول السيارة، تتأرجح بشكل غير طبيعي في الهواء باتجاهه، أنطلقت إلى الصخور التي سار إليها فهد، وذلك باستخدام وحدة التحكم التي تعمل بالليزر الذي لا يرى بالعين المجردة،كان فهد في مزاج رائع، عندما انطلق الصاروخ نحوه بعيداً عن جميع أفراد القرية.
 
الحرب في اليمن
 
الحرب في اليمن مستمرة منذ ثلاث سنوات حتى الآن، وقد بدأ ذلك عندما استولى الحوثيون على عاصمة اليمن في سبتمبر 2014 ، وبعدها سيطروا على جزء كبير من البلاد، وكانت السعودية، القوة السنية العظمى في المنطقة، تخشى أن تكون هذه الحركة الشيعية بمثابة وكيل لإيران، منافسها الإقليمي الرئيسي، شعرت المملكة العربية السعودية بالقلق من تطويق القوات الشيعية، وبدأت في قصف اليمن في مارس 2015، بعد فترة وجيزة من قيام الحوثيين بتشكيل حكومة.
 
وعلى الفور تقريباً أعربت الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان عن قلقها من الطريقة التي يتم بها الحكم على الحرب، بما لها من خسائر فادحة على المدنيين والبنية التحتية الحيوية، وقد ضربت القنابل السعودية المصانع والطرق والجسور والمستشفيات والآبار والجنازات وحفلات الزفاف والتجمعات من النساء وحافلة المدارس المليئة بالأطفال، وأفادت الأمم المتحدة في الشهر الماضي أنها وثقت حوالي 18,000 من القتلى والجرحى المدنيين نتيجة القتال، حوالي 11,000 منهم من الغارات الجوية وحدها. تعتقد مجموعات أخرى عديدة أن هذه التقديرات متحفظة.

كما حاصر السعوديون اليمن، بغرض إبقاء الأسلحة بعيد عن متناول الحوثيين، ولكن ذلك جعل من الصعب للغاية الحصول على الغذاء والمساعدات الإنسانية في دولة فقيرة بالفعل، لقد أدت حملة القصف والحصار معا إلى أسوأ أزمة إنسانية مستمرة في العالم. ثمانية ملايين شخص على حافة المجاعة، ووفقاً لمنظمة "انقذوا الأطفال"، وهي منظمة مساعدات دولية، فإن 85,000 يمني دون سن الخامسة قد ماتوا بالفعل بسبب الجوع. انتشر تفشي الكوليرا إلى 21 من محافظات اليمن البالغ عددها 22 محافظة.
 
في تنفيذ الحملة على اليمن، كان السعوديون يستفيدون من المساعدة من دول الخليج الأخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت، وكذلك الدول الإفريقية المجاورة مثل السودان ومصر، لكن أهم مصدر للدعم المادي هو حليف واحد بعيد وهي أمريكا.
 
في عام 2015، بدأت الولايات المتحدة بتخصيص السفن الحربية للبحرية للمساعدة في منع شحنات الأسلحة من الوصول إلى اليمن، وبينما بدأ السعوديون في إدارة طلعات جوية إلى اليمن، بدأت القيادة المركزية للولايات المتحدة بتزويد طائرات التحالف بالوقود كل يوم إلى الشهر الماضي، مما سمح للطائرات السعودية بالتمدد في السماء لفترة أطول بحثًا عن الأهداف، بدلاً من الاضطرار إلى التخطيط لضربات مقدمًا، ولعل الأكثر أهمية هو أن أمريكا باعت السعوديين أسلحة ذات التقنيات العالية بمليارات الدولارات لمساعدتها على مواجهة النفوذ الإيراني في جنوب المملكة العربية السعودية.
 


لم يمض وقت طويل حتى اتضح أن إيران كانت المستفيد الأول من تجارة الأسلحة الأمريكية، ووفقًا لوليام هارتنج، مدير مشروع الأسلحة والأمن في مركز السياسة الدولية، كانت إيران زبونًا مفضلًا للرؤساء ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وجيمي كارتر، عندما اعتبرت ذلك بمثابة تحديث قوي للنظام في الشرق الأوسط، لكن بعد الثورة عام 1979 التي وضعت آية الله في السلطة، أصبحت المملكة العربية السعودية وكأنها نموذج للاستقرار في المنطقة، وسرعان ما أصبحت المملكة السنية واحدة من أكثر الرعاة الموثوقين لصناعات الدفاع الأمريكية.
 
وبحلول عهد إدارة كلينتون، كانت الولايات المتحدة أكبر مصدر للأسلحة في العالم، حيث تذهب أسلحة بمليارات الدولارات إلى المملكة العربية السعودية وحدها كل عام، وكان لدى كل رئيس متعاقب آمال جديدة لما يمكن أن يحققه الجيش السعودي من مبيعات الأسلحة، وفي عام 2007، أعلن الرئيس جورج بوش عن بيع مبلغ 20 مليار دولار من الأسلحة للسعوديين، في جزء منه لإعادة التوازن إلى المنطقة بعد غزو العراق عام 2003، الذي خلع حكومة سنية وسمح لأحد الشيعة باستبدالها.
 
لقد ساعد بوش إيران من غير قصد، وكان يعتقد أن بيع الأسلحة للسعودية يمكن أن يعالج ذلك، وفي عام 2010، أعلن الرئيس باراك أوباما عن مجموعة من الصفقات بقيمة 60 مليار دولار لتوفير طائرات مقاتلة متقدمة وأسلحة أخرى للسعوديين، مشيرا إلى النفوذ الإيراني وخلق الوظائف الأمريكية.
 
وبعد ذلك، في عام 2015، تم التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران، وبينما كانت دول الخليج قلقة من أن الإتفاق قد يشير إلى أن الولايات المتحدة كانت تبتعد عنهم، وفي تلك الفترة انتقل الحوثيون إلى العاصمة اليمنية ووقع بلد جديد تحت النفوذ الإيراني. كانت المملكة العربية السعودية بحاجة إلى مزيد من القنابل الأمريكية، وفي غضون شهر من تبني الصفقة النووية، أعلنت وزارة الدفاع عن بيع 1.29 مليار دولار من الأسلحة في صورة قنابل موجهة بشكل دقيق للمملكة العربية السعودية. وبعد مرور عام، كان من الواضح لإدارة أوباما أن السعوديين لا يستخدمون الأسلحة الموجهة لتقليل عدد الضحايا المدنيين. لذا قبل أن يغادر منصبه، علّق أوباما مبيعات القنابل الذكية إلى السعوديين.
 
لكن بعد توليه منصب الرئاسة، غير الرئيس ترامب الأمور، وفي أول رحلة خارجية له كرئيس إلى المملكة العربية السعودية، أعلن أنه سيستأنف ويوسع بيع الأسلحة، وكان هناك جهد من الكونغرس لوقف هذه العملية، فالسناتور راند بول الذي شارك في رعاية مشروع قانون لوقف بيع الأسلحة للسعوديين مع السناتور كريس ميرفي، أخذ إلى قاعة مجلس الشيوخ صورة لطفل يمني جائع، وقال بول: "إنه أمر مذهل ما يحدث هناك، ويتم ذلك دون إذن منكم، ولكن بأسلحتكم"، وقد هُزم القرار بـ53 صوت مقابل 47، حيث ينحاز أغلبية كبيرة من الجمهوريين إلى الرئيس وضد بول.
 
يناقش الكونغرس مرة أخرى التورط الأمريكي في الحرب اليمنية، لكن بغض النظر عما قد يحدث في المستقبل، فإن الولايات المتحدة قدمت بالفعل قدرة هائلة للحملة الجوية التي تقودها السعودية. من العام 2010 إلى العام الماضي فحسب، طبقاً لقاعدة بيانات نقل الأسلحة بمعهد أبحاث السلام الدولي التابع لمعهد ستوكهولم الدولي، سلمت الولايات المتحدة إلى المملكة العربية السعودية 30 مقاتلة من طراز F-15 متعددة النواقل في تشكيلة F-15SA، وهي أكثر المقاتلات تطوراً التي تنتجها الولايات المتحدة. بالإضافة إلى 84 طائرة مروحية قتالية و110 صواريخ جو أرض وألفي قنبلة موجهة. تشمل هذه القنابل الموجة 11,320 قنبلة من نوع Paveways)) هو نوع من القنابل الموجهة بالليزر يمكن إسقاطها من على بعد تسعة أميال ومن علو 40,000 قدم، والتي تنفجر على بعد 10 أقدام من هدفها.
 
عودة إلى موقع البئر
 
في موقع البئر حدثت سلسلة من الأحداث على الفور تقريبا، وأصاب السلاح صخرة، حيث انفجر فتيل في ذيله أدى إلى تفجير ما يعادل 200 رطل من مادة "TNT" المتفجرة، وعندما تنفجر قنبلة كهذه، تتكسر القشرة إلى عدة آلاف من قطع الفولاذ التي تطير في الهواء بسرعة تصل إلى ثمانية أضعاف سرعة الصوت.
 
الصلب الذي يتحرك بهذه السرعة لا يقتل الناس فحسب بل يمزقهم، في هذه الأثناء، يملأ نطاق الغاز المتسع الذي ينبعث من القنبلة أجزاء جوفاء من الجسم، ويقطع طبلة الأذن، ويتسبب في انهيار الرئتين، ويثقب تجاويف البطن، ويجعل الأشياء المخفية تنزف، تدفع موجة الانفجار الهواء إلى مثل هذه السرعات الاستثنائية.
 
طار الجزء الخلفي من شاحنة الصهريج واصطدم بالصخور، وطارت القطع المسننة بسرعة آلاف الأميال في الساعة إلى الخارج، ربيع، الذي كان ما زال يحتفل بنجاحه، قطع رأسه بالكامل وتمت إزالة النصف العلوي من وجهه وأحرقت حرارة الانفجار معظم ملابسه وتركته عارياً وتعرضت أعضائه التناسلية للضرر وكان جسده يدخن. وإلى جواره، كان قريبه القاضي، الذي احترق حياً وجسده كان يتضخم بدأ الصراخ وهو ينزف الدماء.
 
وكان فهد قد دخل لتوه إلى مأوى الأحجار ولم يلاحظ سوى سطوع مفاجئ، ولم يسمع شيئا، من ثم اخترقته الشظايا، ارتطمت واحدة بالجدار الخلفي ثم به وكان هناك معدن قليلا في الساق والجذع والفك والعين، ودخلت قطعة واحدة ظهره وخرجت من صدره وتركت حفرة خاوية امتلأت بالهواء والسائل مما تسبب في انهيار رئتيه، وبحلول الوقت الذي استيقظ وكان يختنق على نحو ما نجا، لكنه كان يقتل نفسه مع كل نفس وكان ينزف بشدة، لكنه لم يكن على دراية بأي من هذه الأشياء، لأن دماغه قد سيطر عليه ألم يبدو وكأنه جاء من عالم آخر.
 
لم يستطع التفكير في أي شيء إلا أنه اضطر للخروج من الكوخ، وعندما بدأ الغبار يتلاشى  رأى أن الأرض مليئة بقطع معدنية محترقة، كان الكوخ قد تحول إلى فرن، وكان محاصراً بداخله، شعر كما لو كان في الجحيم، كما لو كان يوم القيامة.
 
كان عليه أن يهرب ولكن عندما حاول الزحف على المعدن المحترق سقط إلى جانبه لأن سواعده قد سُحقت، بدأ يتدحرج، لقد تدحرج فوق معدن شديد الحرارة وعلى أجزاء أجسام أصدقائه، لم يكن يفكر في أصدقائه ولم يكن يفكر في أحد، لم يكن يفكر في عائلته في تلك اللحظة، نسي فهد أن لديه أطفال.
 
استيقظ يوسف على رأس كابينة شاحنة الحفر، نظر إلى الأسفل ورأى أن ساقه اليسرى كانت قد تمزقت إلى خيوط من الدم والعظام. أدرك أنه كان يهتز، فرأى حوله الحطام المتناثر لمؤخرة الشاحنة، كان يحاول أن يعثر على شيء يربط به قدمه، ربما كان يعرف ذلك من الأفلام أو ربما من الأصدقاء، ورأى بعد ذلك موجة من ومضات مشرقة في الهواء تدل على أن أحد يطلب المساعدة.
 
عندما تلقى الدكتور عبد اللطيف أبو طالب، مدير مستشفى الثورة العام الحديث في صنعاء، مكالمة حول الضربة الجوية في أرحب كان في المنزل في العاصمة، على بعد ساعة ونصف.
 
أبوطالب، رجل صغير بصوت متعب، هو دينامو للطاقة، فهو يعمل في مستشفى يحوي 850 سريرا، وبدأ المستشفى في استقبال عدد الحالات التي تحتاج للاهتمام أكثر، وأصبح يعرف بجراح الصدمة، وبات يدرك أن كل مريض يحتاج لتدخله الشخصي.
 
عندما تسقط القنابل، ينزل إلى غرفة العمليات ويعمل بدون توقف، مريض تلو الآخر، وأحيانًا لا يخرج من الجراحة لمدة 24 ساعة، وقد شاهد، في تلك الساعات يقف فيها فوق طاولة العمليات بعد الغارات الجوية، أشياء قاتمة ومرعبة.
 
لقد رأى ابنه الذي في العشرين من عمره الذي تم إحضاره إلى المستشفى، وكان قد احترق إلى درجة لا يمكن التعرف فيها عليه، بعد أن أصيبت السيارة التي كان يستقلها بضربة جوية، وعندما كان يعمل كان قادرا على تخيل أن الشاب لم يكن ابنه، ولكن انهار الوهم عندما رأى ندبة عرفها على إصبع قدمه الكبير، لم يستطع أبو طالب إنقاذ إبنه، وتكرر الموقف على أخيه في ضربة أخرى، قتلت أخاه الآخر ووالده أيضاً، والآن يحاول أبو طالب أن يزيل هذا الشعور عندما يكون في العمل، يفكر في الأمر على أنه يجعل قلبه مثل الحجر، ولكن عندما ينتهي، يعود إلى المنزل ويبكي إلى جانب أطفاله الباقين على قيد الحياة.
 


في صباح ذلك اليوم في سبتمبر 2016، عندما وصل إلى قسم الطوارئ، وجد الممرات محاطة بالمرضى المحتضرين وأفراد العائلة اليائسين من غارة جوية مختلفة، حدثت في أقرب مكان في صنعاء، نادوه الناس وهو يسير في محاولة لفت انتباهه.
 
أبو طالب يحاول مقاومة هذه النداءات، ويحاول بدلاً من ذلك التركيز على المرضى الذين لديهم فرصة للحياة ولا يعول على المعجزات، فحتى المعجزات تتطلب معدات، وبسبب الحصار، كان كل مورد حيوي وأداة تشخيصية يحتاجها أي مستشفى عادي للعمل تتدنى إلى حد كبير، ناهيك عن واحد يرى أحداثاً قتالية منتظمة من قنابل مصممة لتفكيك مئات الأشخاص في كل اتجاه.
 
انعدم تقريباً لديهم التخدير العام، وفي الآونة الأخيرة كانوا يعتمدون على الهالوثان، وهو مخدر رخيص يشتبه في التسبب في تلف الكبد، لم يعد يستخدم في أمريكا الشمالية، ولم يتمكنوا من الحصول على ما يكفي من القفازات أو الأقنعة، وبالكاد كان لديهم أي دم، لأنهم لا يستطيعون الحصول على الحقائب التي تحمل الدم المتبرع به بعد الحصار، ولم يكن لديهم كذلك أغطية اسرة كافية، والتي يمكن أن تتغير مرة واحدة فقط في الأسبوع، وولم يتمكنوا من الحصول على الأجزاء التي يحتاجونها لإصلاح الغسالة بشكل صحيح، لذا كانت تنكسر كل يوم تقريبًا، وكل شيء كان قذر، كان المستشفى مليئ بالدماء، وغالبًا ما يقلق أبو طالب من أنه كان يحاول يائساً إنقاذ المرضى حتى يتمكنوا من البقاء لفترة طويلة بما فيه الكفاية ليموتوا من عدوى تلقوها في المستشفى.
 
ولكن منذ أن بدأ الحصار، كان أبو طالب قد تعلم حيل ساعدته في عمله، وهو ضد القنابل التي تتقن البتر لدرجة أن مرضى الحروق لا يملكون في الغالب أطرافًا أخرى للتطعيم منها، لذلك فقد تعلم أن يكون مبدعاً عند العثور على أماكن في الجسم لحصاد على الجلد، وقد تعلم أن لا يحاول مساعدة المرضى الذين لا يعتقد أنه يستطيع إنقاذهم.
 
إسعاف ضحايا أرحب
 
في صباح ذلك اليوم، رأى صبياً يبلغ من العمر ثلاث سنوات، وربما أصغر سناً، بالتأكيد لا يملك أقداما، فقد بترت ساقيه وجزء من ذراعه، وبينما كان أبو طالب يعمل عبثاً على الصبي في غرفة العمليات، بدأ الضحايا من أرحب في الوصول إلى الخارج، وكانوا متكدسين في مؤخرة شاحنة صغيرة، كان القاضي لا يمكن التعرف عليه تقريبًا من التورم، بدا يوسف عامل الحفر يملك عينين تائهتين وفي نفس الوقت غاضبتين، كان فهد يختنق وينزف.
 
عرف أبو طالب فوراً أن فهد بحاجة إلى معدات لم يكن يملكها، لكن أبو طالب اختاره على أي حال، ولم يكن النزيف والكسور والشظايا من مشكلات فهد فقط أو حتى الأكثر إلحاحًا، كان جانب واحد من صدره مضغوطًا تمامًا، وكان غير قادر تقريبًا على التنفس، واحتاج أبو طالب إلى نظام تصريف مياه، وهو عبارة عن قطعة من المعدات التي تخلق شفطًا مغلقًا مما يسمح للهواء والسائل بالهروب من التجويف الجنبي دون العودة إليه، مما يخفف الضغط على الصدر ويسمح للمريض بالتنفس.
 
لم يكن لدى المستشفى واحد من هؤلاء، لذا ارتجل أبو طالب، وطلب من شخص أن يحضر له عبوة مياه بلاستيكية، وعمل حفرة في نهاية واحدة ووضع خط رابع في ذلك، اقتحم صدر فهد وربط الطرف الآخر من الخط الرابع في الفراغ بين قفصه الصدري ورئتيه، كان فهد في عذاب كما شعر بالعطش الشديد فقد نزف الكثير من الدماء التي كان يعاني منها، وبالنسبة لفهد، بدا الأمر كما لو أن الناس الذين يحومون حوله كانوا هناك لمواصلة تعذيبه، كان لديه غريزة للرد، ولم يستطع استخدام ذراعيه لكنه تمنى أن يقترب أبو طالب مما يجعله يعضه.
 
ومع ذلك، استمر الطبيب في العمل مع وضع أحد طرفي الخط الرابع في صدر فهد وربط الطرف الآخر بثقب في عبوة ماء بلاستيكية على بعد بضعة سنتيمترات أسفل خط الماء، خلقت العلبة صماماً ذا اتجاه واحد يسمح للهواء والسوائل بالخروج من صدر فهد ومنعها من الذهاب في الاتجاه الآخر، ومع وجود الخطوط في المكان بدأ صدر فهد يفرغ وأخيراً بدأت رئة فهد بالتضخم.
 


بعد ذلك، حاول أبو طالب تحقيق الاستقرار في حالة القاضي، هو وممرضاته حاولوا تضميد جلده بقدر ما استطاعوا مع الشاش الصغير الذي يمكن أن يستخدموه عليه، لكن المدير عرف أنهم بحاجة لإخراجه من هناك، مع تقشر جلده، كان القاضي يفقد حاجزه عن العالم الخارجي، وكان هذا المستشفى أسوأ مكان لشخص عرضة للإصابة، أرسلوه إلى مستشفى آخر حيث نجا لمدة يومين آخرين.
 
ذهب أبو طالب إلى المريض التالي، الذي بدا أنه ينزف داخليًا، لكنه لم يكن واضحًا، ولم يكن لديه إمكانية الوصول إلى أدوات التصوير، لذا فقد فعل ما كان يفعله في الغالب، لقد فتح المريض وبحث فيه، وجد أسوأ ما في الأمر هو كبد المريض، لذا بدأ في محاولة غرزه بنوع خاطئ من الإبرة، لأن المستشفى لم يكن لديه إبر كبدية، جعل الكبد ينزف أكثر، وانتظر بضع دقائق حتى يهدأ قبل محاولة غرزة مرة أخرى، لكن قبل أن يتمكن من الانتهاء، تلقى مكالمة تخبره أنه حدث شيء آخر في البئر في أرحب، وهناك المزيد من المرضى قادمون.
 
السعودية والسلاح
 
عندما يشتري السعوديون الأسلحة، يفضلون استخدام برنامج المبيعات العسكرية الأجنبية، وهذا يعني أن وزارة الدفاع الأمريكية تعمل كوسيط لهم. بالنسبة لرسوم إدارية قدرها 2 في المئة يتم دفعها إلى جانب سعر الشراء، ويتعامل البنتاغون مع الخدمات اللوجستية وينسق مع الشركات الخاصة لتنفيذ الأمر.
 
 في الواقع تشرف وزارة الخارجية الأمريكية، التي تقوم بمراجعة جميع الطلبات، على مهمتها في تعزيز أمن الولايات المتحدة وتعزيز السلام العالمي، اشترت أكثر من 100 دولة حول العالم أسلحة من الولايات المتحدة بهذه الطريقة في السنة المالية 2017. ويمكن لبعض الدول شراء أنظمة أسلحة معينة مباشرة من الشركات المصنعة، لكن السعوديين يحبون سياسة الشراء من حكومة الولايات المتحدة ويشعرون بأنهم يحصلون على معاملة أسرع من الشركات الأمريكية عندما يتحدث البنتاغون نيابة عنهم.
 
عادةً بعد البيع عبر برنامج المبيعات العسكرية الأجنبية، تأخذ قيادة النقل العسكرية الأسلحة وتسلمها إلى العميل الأجنبي، لكن المملكة العربية السعودية بدلاً من ذلك تستأجر رحلات طيران مستأجرة خاصة مثل طائرات شحن اليوشين العملاقة في الحقبة السوفيتية المليئة بمكونات القنابل الموجهة وتطيرها حتى تصل إلى قواعد القوات الجوية السعودية.
 
هناك تعلق زعانف الذيل وأطقم التوجيه بالليزر إلى طرفي الرؤوس الحربية، وتتحول قنابل السقوط الحر إلى أسلحة موجهة بالليزر، ثم يتم تحميلها على رفوف القنبلة أسفل المقاتلات النفاثة، إنها عملية تحدث في القاعدة السعودية في الظهران وقاعدة الملك خالد الجوية في الزاوية الجنوبية الغربية للمملكة العربية السعودية.
 
قاعدة الملك خالد تملك سرب من طائرات F-15 متمركزة بشكل إستراتيجي هناك، حدث أن يكون على بعد 200 ميل من بئر جديد على وشك التشغيل في منطقة تسمى أرحب. يمكن لطائرة F-15 بسرعة قصوى أن تقطع تلك المسافة في حوالي ست دقائق.
 
في ذلك الصباح كان القرويون في جميع أنحاء أرحب يشقون طريقهم إلى موقع القنبلة، جاء البعض لمحاولة المساعدة، وجاء البعض للبحث عن أحبائهم المفقودين، العديد منهم، وخاصة الأطفال، في محاولة لمعرفة ما الذي كان أيقظهم في منتصف الليل، بعد الفجر بقليل تجمع أكثر من مئة شخص.
 
هناك بعض الخلاف حول ما حدث بعد ذلك، يقول البعض إنهم سمعوا طائرات متعددة، سمع البعض الآخرين الصراخ، وبعضهم أقسم أنه لم يكن هناك تحذير وأنهم لم يسمعوا أو يروا أي شيء مسبقًا، ما لا خلاف عليه هو أن الموجة الثانية من القصف بدأت بعد ست ساعات من الانفجار الأول، عندما تشكلت حشود كبيرة.
 
كانت هناك موجة حادة مفاجئة من الهواء، وبدأ الجميع بالركض، ذهب الناس في جميع الاتجاهات المختلفة وبدأت الانفجارات، كانت السيارات والدراجات النارية تندفع في الهواء، تمزقت جثث  الأولاد واستمر الهجوم لساعات، وكانت كما لو أن قنبلة كانت تسقطت كل بضع دقائق، يبدو أن كل واحدة منها تحاول ضرب الناس الذين يحاولون الهرب، كما لو أنهم يتبعونهم، قال الناس إنهم لا يشعرون وكأنه هجوم، الكلمة التي استخدموها تترجم إلى "الإبادة".
 
وأفادت هيومن رايتس ووتش بأن ما لا يقل عن 31 مدنياً قُتلوا، ثلاثة منهم من الأطفال، وأصيب 42 آخرون، ومن الصعب معرفة الأرقام بالتأكيد، لأن كل ما تبقى من العديد من الضحايا كانت أجزاء صغيرة جداً، بعيدة كل البعد عن بعضها البعض.
 


أتى الناس بأكفان في موقع القنبلة، في محاولة منهم لجمع أجزاء يعتقدون أنها لأحبائهم، لم تنجو الهواتف المحمولة دائمًا من الانفجارات، ولكن داخلها، كانت بطاقات الذاكرة تعمل أحيانًا، وفي بعض الأحيان كانت تلك البطاقات تحتوي على صور ساعدت القرويين على التعرف على المفقودين، وكان ما لا يقل عن 11 جثة مشوهة لدرجة أنه لا يمكن تحديدها، وكان معظم القرويين مصابين بالصدمة ومرعوبين للغاية، لدرجة أنهم لم يريدوا الخروج على الإطلاق.
 
يجبر الإسلام أتباعه على دفن المتوفى في غضون 24 ساعة، لذلك كان على أهالي أرحب أن يقيموا الجنازات، لكنهم كانوا خائفين من التجمع في الخارج، لا أحد يعرف متى قد تظهر الطائرات من العدم مرة أخرى، وبعد إصرار عائلات الضحايا اضطر بعض أفراد الأسر إلى توديع ذويهم لحضور الجنازات وكان الحضور ضئيل.
 
في جميع أنحاء البلاد، كان الناس يتعلمون نسخة من نفس الدرس، لقد ظلوا في منازلهم بعيداً عن وظائف المصانع، لأنه حتى لو لم يتعرض مصنعهم للضرب، فربما يكون التالي، وعلى الطرق حافظ الناس على مسافات بعيدة بين سياراتهم وبين شاحنات البضائع أي شيء ذي قيمة، أي شيء يجلب التجارة أو الغذاء أو الصحة، يمكن في أي لحظة أن يتم قصفه بمن فيه.
 
من الصعب القول ما هو الأثر الكلي للعيش في رعب مستمر من الغارات الجوية، أشار أحد العاملين المحليين في مجال حقوق الإنسان إلى شيء واحد أنه لاحظ أن اليمنيين توقفوا عن حفر الآبار، وربما هذا جزء من السبب الذي أدى إلى ارتفاع عدد الأشخاص الذين هم في حاجة ماسة إلى المياه النظيفة، ومع وجود مرافق الصرف الصحي والآبار تتعرض للهجوم، فإن مرض الكوليرا لا مفر منه.
 
تم الإبلاغ عن الحالات الأولى بعد ثلاثة أسابيع من القصف في أرحب، على بعد بضع عشرات من الأميال بعد سبعة أشهر، كان لدى البلد أكثر من 100,000 حالة مشتبه بها، كان لدى أرحب واحدة من أعلى معدلات الهجوم في البلاد، وبعد عام كان هناك ما يقرب من مليون حالة من حالات الكوليرا المشتبه بها في البلاد، مما يجعله أسوأ تفشٍّ في العالم، بل واحد من أسوأ الحالات في التاريخ المسجل.
 
مصادر القنابل
 
في خريف عام 2016، كانت باحثة لـهيومن رايتس ووتش تدعى بريانكا موتابارثي تخطط للقيام برحلة إلى اليمن مع زملائها كجزء من مهمتهم في توثيق الهجمات على المدنيين والبنية التحتية الحيوية، عندما علمت بما بدا وكأنه هجوم على كليهما في منطقة نائية تسمى أرحب، عرفت أنها يجب أن تكون على القائمة، وبما أن وصلت هي وفريقها إلى البلاد، شقت طريقهما إلى أرحب، كان أول ما صعق بريانكا هو عدد الأسلحة التي استخدمت، كانت هناك فوهات في كل مكان، أحصت على الأقل 12 قنبلة على الرغم من أن القرويين يعتقدون أن ما يصل إلى 20 قنبلة سقطت في ذلك اليوم، وعثرت بريانكا على عدد هائل من مخلفات القنابل.
 
لقد فوجئت في البداية بأن أحداً لم يكلف نفسه عناء التقاطها بعد، لكن القصف في أرحب لم يصبح بؤرة الاهتمام الدولي، وكان الحوثيون مهتمين أكثر بالإعلان عن الضربات الأخرى، أخبرني القرويون لاحقاً أن العديد من الناس كانوا ببساطة خائفين من أجزاء القنابل، معتقدين، استناداً إلى ما حدث للضحايا، أن الأسلحة تحتوي على بعض السم الغريب.
 
من بين كل القطع الأخرى والقطع المتناثرة وجدت بريانكا لوحة بيانات من قسم الجناح، على الرغم من أن كرة لولبية وكانت متضررة جزئيا، نجت في الغالب من الإضراب، كانت هذه القطعة مفتاحًا لتاريخ كامل من رحلة السلاح.
 
بسبب بحث بربانكا تمكنا من العثور على ثروة من المعلومات حول مصدر القنبلة، كانت لوحة البيانات تحتوي على رمز تعريف وزارة الدفاع الذي أشار إلى أنها جزء من زعنفة في قنبلة موجهة، كما كان لها تاريخ تصنيع، مما يدل على أنها قد خرجت عن خط التجميع في أكتوبر 2015، كان لديها رقم مخزون، عندما اقترن برقم التجميع، كشف أن لوحة البيانات تنتمي إلى جزء من آلية التحكم لشيء يسمى "Paveway II" لنظام التوجيه بالليزر.
 
تم تصميم هذا النوع من الطقم ليلتصق برأس حربي من نوع MK82 بقدرة 500 باوند، قنبلة صنعت في جارلاند في ولاية تكساس، في منشأة جنرال دايناميكس، هناك يتم تسخين حوالي 300 رطل من الفولاذ الفارغ ثم يتم تزويرها في أصداف أجوف، ثم تنتقل تلك القذائف إلى 150 ميلاً شمالًا إلى مصنع للذخيرة العسكرية في مكلستر، وهو مجمع مساحته 45,000 فدان حيث تعلق القذائف، بعد ذلك، يتم ملئها بـ200 رطل من المتفجرات الدافئة، كانت خردة بريانكا التي وجدت فيها رمز التجميع فريدة من نوعها لأحد الشركات المصنعة الأمريكية وهي رايتون، التي تصنع مجموعات التوجيه "Paveway II" في منشأتها أريزونا.
 
تأثير مقتل خاشقجي
 
في أوائل أكتوبر من هذا العام، بدأت الأخبار تتسرب عن اختفاء معارض سعودي بارز، جمال خاشقجي، الصحفي الذي كان ينتقد النظام السعودي في واشنطن بوست، زار القنصلية السعودية في إسطنبول لجمع الأوراق ولم يظهر بعد ذلك.
 


وبمجرد دخوله، كان قد قُتل بوحشية وتم تقطيعه إلى أوصال بواسطة فريق من الرجال السعوديين، لقد أدركت المخابرات الأمريكية أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أمر بعملية الاغتيال، وفي الأسابيع التي تلت الأخبار وظهور التفاصيل الشنيعة أدى هذا الموت إلى فعل ما لم يستطع الآلاف في اليمن فعله، وهو جذب انتباه أمريكا إلى علاقة غريبة ومريحة بين الولايات المتحدة والمملكة السعودية.
 
في 28 نوفمبر صوت مجلس الشيوخ على قرار لفتح الجدل حول إنهاء الدور الأمريكي في اليمن بالجملة، وفي هذه المرة تم تمرير القرار، لكن البيت الأبيض هدد باستخدام حق النقض ضد أي مشروع قانون من شأنه أن يزيل التدخل الأمريكي في الصراع، واستمر في الدفاع بقوة عن علاقته بالمملكة العربية السعودية.
 
في وقت سابق من نوفمبر وضع الرئيس ترامب بيانًا رسميًا يدافع من خلال شروط المرتزقة عن دعمه المستمر للسعوديين، وقال البيان "بعد رحلتي التي تم التفاوض عليها بشكل كبير في السعودية العام الماضي وافقت المملكة على إنفاق واستثمار 450 مليار دولار في الولايات المتحدة. من أصل 450 مليار دولار ، سيتم إنفاق 110 مليارات دولار على شراء معدات عسكرية من بوينغ ولوكهيد مارتن ورايثيون، والعديد من كبار مقاولي الدفاع الأمريكيين" أقرت وزارة الخارجية أنه لم يتم التوصل إلا إلى صفقة بقيمة 14.5 مليار دولار في الوقت الحالي.
 
ولأن الوظائف الأمريكية هي سبب إعلان إدارة ترامب عن بيع الأسلحة، فقد ذهبت إلى توكسون لأرى ما هي تلك الوظائف.
 
 المدينة محاطة بأراضٍ جافة لا ينمو كثير من الأشياء هناك، وتحيطها الجبال البنية بطريقة مشابهة لتضاريس اليمن، حتى إن توكسون لديها طائرات F-16 تابعة لقاعدة للحرس الوطني الجوي، وهي طائرات أحادية المحرك أصغر حجمًا وأبطأ من طائرات F-15 التي يستخدمها السعوديون.
 
بدأت رايثون حياتها التجارية كشركة أمريكية للأجهزة المنزلية، حيث قامت بتطوير ثلاجات وأجهزة راديو، ولكن تم إدخالها في التعاقدات العسكرية خلال الحرب العالمية الثانية، وبحلول التسعينيات، كانت الصناعة تزدهر مع نهاية الحرب الباردة، لكن رايثيون ظلت ملتزمة بالدفاع، حتى إنها بدأت في بيع الشركات غير العسكرية وشراء شركات فرعية موجهة للعديد من الشركات الأخرى، بما في ذلك شركات تكساس إنسترومنتس وكرايسلر، ومع ذلك، حدث واحد من التحولات في الصناعة، عندما قامت رايثيون بمزايدة شركة نورثروب غرومان لشراء شركة هيوز للإلكترونيات.
 
لم يكن هاورد هيوز الرائد في مجال الطيران والرائد الصناعي، يرغب في بناء صواريخ في مصنع طائرته في لوس أنجلوس، فقد كان قريباً جداً من الساحل، وبالتالي، كان يخشى التعرض للهجوم، فذهب للبحث عن مكان في الداخل، استقر في نهاية المطاف على توكسون.
 
عندما استحوذت شركة رايثيون على شركة هيوز للإلكترونيات في عام 1997، حصلت أيضًا على مصنع الصواريخ، الاستحواذ هذا ضاعف تقريباً مبيعاتها السنوية، واليوم توظف رايثيون ما يقرب من 10,000 شخص في توكسون وحدها، وتكسب رايثيون المزيد من الأموال على الدفاع من أي شركة في العالم باستثناء شركة لوكهيد مارتن، مع ما يقرب من 25 مليار دولار من المبيعات سنوياً.
 
في قاعة الاتحاد المحلي في توكسون، التقيت بزوجين مضحكين ولطيفين، وتحدثنا مساء عن حياتهما في رايثيون، (لقد اخترت عدم تحديدهما) واحد منهم، وهو رجل هادئ ومضحك يعمل في القسم الذي تأتي إليه جميع القطع معا قبل أن تخرج كسلاح من الباب.
 
كان الرجل الآخر الذي كان يعمل منذ سنوات، فخورًا بعمله أيضًا، وتحدث عن الأسلحة الموجهة بدقة والتي تساعد الدول على تجنب إيذاء أي شخص يحاول ذلك، وبالنسبة له فإن الشيء الذي قال إنه جعله أكثر فخرًا بالعمل في شركة رايثيون يساعد في الحفاظ على سلامة الجنود الأمريكيين والنساء.
 
تقوم الشركة بتوظيف قدامى المحاربين الذين يعانون من إصابات القتال، وهو يشعر بذلك عندما يرى الصور الضخمة لأعضاء الخدمة التي تعلقها الشركة في الأجزاء الأبرز من المصنع، وأوضح أن الصور هي من أقارب عمال رايثيون، وعندما يكون في العمل، فإن فكرة مساعدة الجنود الأمريكيين والنساء الأمريكيين ليست مجردة.
 
في آخر استدعاء للأرباح طلب أحد المحللين من مديري شركة رايثيون معلومات حول مبيعات الأسلحة للسعودية، كان يشعر بالقلق مما إذا كانت القضايا في الشرق الأوسط في الوقت الحالي وتحديداً المملكة العربية السعودية يمكن أن يكون لها أي تداعيات سلبية، كانت الإجابة، في جوهرها: لا تقلق، وذكر الرئيس التنفيذي للشركة توماس كينيدي للمحللين أن شركة رايثيون لديها عملاء في أكثر من 80 دولة، ثم دخل المدير المالي لشركة رايثيون أنتوني أوبراين ليضيف أن السعوديين يمثلون 5 في المئة فقط من إيرادات الشركة.
 
تبرير التحالف لهجوم أرحب
 
بعد مرور عام على الضرب في أرحب أصدر فريق تقييم الحوادث المشترك، وهو هيئة مكونة من أعضاء التحالف يحلل شرعية غاراته الجوية بيانا قال فيه إن الطيارين قاموا بقصف موقع البئر في أرحب لأنهم اعتقدوا أنه كان هجومًا بالستيا، إنه عذر يعكس السذاجة، لا تبدو منصات إطلاق الصواريخ الباليستية أشبه بحفارات الحفر.
 
من ناحية أخرى، من المعروف أن الطيارين السعوديين يفضلون الطيران على أعلى مستوى ممكن خوفا من نيران الأرض، وهذا يجعلهم أكثر عرضة لتوضيح ما يقومون بقصفه، وبفضل التزود بالوقود الجوي الأمريكي، يمكن للطائرات السعودية أن تشارك في "استهداف ديناميكي" بمعنى أنها تخرج وتبحث عن أشياء لتفجيرها.
 
لقد مر عامان وشهر منذ الضربة في الوقت الذي قطعت فيه طريقي إلى اليمن، ثم إلى أرحب في إقليم المتمردين، بعد شهور من المفاوضات كان عليَّ أن أحصل على إذن من الحكومة المدعومة من السعودية في الجنوب ومن الحوثيين في الشمال،  كنت بحاجة إلى الطيران إلى عدن التي يسيطر عليها السعوديون وشق طريقي برا إلى أراضي المتمردين.
 
لقد ارتديت لباس الملابس اليمنية التقليدية ومضغت القات من أجل التسلل عبر نقاط التفتيش، على الرغم من أنني لست متأكدا ما إذا كان هذا ضروري لسلامتي الخاصة، وكنت أتوقع تعقيم مكان الهجوم في الوقت الذي وصلت فيه، لكن موقع القنبلة لا يزال كما هو، بأجزاء من القطع الفولاذية والقطع المطاطية التي افترضت أنها كانت إطارات سابقاً، كانت هناك العديد من الحفر قريبة من البئر وعلى بعد أمتار منه، أعطاني القرويون أشياء صغيرة لكنها ثقيلة للغاية وقالوا إنها من بقايا القنبلة.
 
قضيت صباحي الأول في أرحب في فصل دراسي مع ما يقرب 60 شخصاً، كان لدى العديد منهم إصابات واضحة ومروعة، بينما كان آخرون يلوحون ببطاقات هوية لإظهارها، لم أفهم في البداية، ثم بدأ مترجمي يقول: "هذا هو أخوه"، "هذا هو ابنه". لقد جاءوا متوقعين أنهم سيحتاجون إلى دليل لإثبات أنهم فقدوا ذويهم الذين تقول أمريكا إنهم لم يفقدوهم، لم أكن من قبل في غرفة صغيرة مع العديد من الرجال يبكون.
 
قابلت يوسف، عامل الحفر، في ذلك الصف، بدا حزينًا، حيث إنه فقد ساقه وكان لديه طرف اصطناعي، وقابلت فهد في ذلك الفصل أيضاً، وبعد ذلك، قضيت الكثير من الوقت معه، معظمه على أرضية غرفة في منزل شيخ القرية، وبحلول ذلك الوقت كان قد أمضى أكثر من عام في المستشفى، حيث تمكن من التهرب من العدوى القاتلة، ثم بعد مرور أكثر من عام على ذلك تغيرت حالته، لم يستطع رفع الكثير من الأشياء، لذلك كان عديم الفائدة في الحقول، لم يتمكن من إعالة أسرته، وقد فقد استثماره بالكامل في ذلك اليوم في البئر.
 
ولكن أكثر ما أحبطه كان الشظايا التي لم يستطع الأطباء إزالتها من رأسه، قال لي إنها تغير طريقة تفكيره، إنه غاضب طوال الوقت، ويعتقد أن هناك سببًا كيميائيًا لذلك، وهو شيء متعلق في المعدن، وقال إنه في بعض الأحيان يؤلمه بشدة ويرغب في إزالته.
 
بعد ذلك سمع صدى F-15S وقالوا لي أن أذهب للخارج حتى أتمكن من السماع بشكل أفضل، فعلت ذلك، ولم أتمكن من رؤية أي شيء، لكنني كنت بالكاد أسمع، لم أكن قد تعرفت على أنها طائرة مقاتلة، أنا لست متأكدًا من أنني كنت سأعرفها كطائرة.
 
بدا وكأنه رياح شديدة التركيز، على بعد أميال، وسألت كيف عرفوا أنها ليست رحلة تجارية، وذكروني بالحصار حيث إنه لا توجد رحلات تجارية هنا، وعلى أي حال، الصوت مختلف، حتى الأطفال هناك يعرفون أنه صوت F-15s.
 
 لقد تعلموا معرفة الفرق بين التوقيعات الصوتية للطائرة التي تحلق في السماء، وتكوِّن لديهم أسماء، وأسلوب المحاكاة الصوتية للضوضاء التي يصدرونها مثل الزنانة للطائرات بدون طيار، وفي اليوم التالي كنت أتعرف على غارة جوية في المنطقة المجاورة.
 
عدنا إلى الداخل واستأنفنا محادثتنا، لكن مرة أخرى توقف فهد عن الحديث للحظة، وهذه المرة بدأ يتحرك عبر السجادة نحوي، رفع نفسه على ساقه السيئة وانحنى إلى الأمام، كانت عيناه ساطعتان فجأة ورأيت ما وصفه القرويون الآخرون عندما تحدثوا عن فهد قبل الضربة، هذا الرجل الذي كان ذات يوم نشيطًا والذي كان شديدا وصاحب الكاريزما.
 
كان يميل رأسه نحوي، ثم فهمت أنه يريدني أن أتطرق إلى وجهه، استدرت بمعصمي إلى استخدام الجزء الخلفي من يدي، كأنني أفحص طفلاً من أجل درجة حرارة، بطريقة ما بدا أقل تدخلاً قام فهد بتحريك رأسه، ثم كانت يدي على وجهه وكنت أشعر بقسوة من المعدن حول أسفل غضروفه، وقد أدهشني أن هذه كانت طريقة سريالية لمواجهة الذخائر الأمريكية، وفي نهاية الرحلة التي بدأت في الجنوب الغربي الأمريكي وجلبتها إلى هنا، في هذا الجزء النائي من بلد فقير يائس، إلى وجه رجل ظنوا أنه كان لديه شيء للاحتفال به لبرهة من الزمن قبل شهر واحد.
 
*نشرت المادة في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
 
*كتب المادة جيفري إي. ستيرن، وهو صحفي تحقيقات،  ومؤلف لكتابين بعنوان "الألف ظهور" و"15: 17 إلى باريس".
 
*يمكن قراءة المادة الأصل هنا
 
*ترجمة خاصة بالموقع بوست.


التعليقات