الحرب والموسيقيون في اليمن.. الثمن الباهظ والمآل المُخيف
- القدس العربي الخميس, 17 أغسطس, 2017 - 11:23 صباحاً
الحرب والموسيقيون في اليمن.. الثمن الباهظ والمآل المُخيف

تمثّل تجربة عازف القانون الوحيد في اليمن أحمد الخالدي مثالاً حياً لما عاشه ويعيشه الموسيقيون في بلاده، فبعدما صار متقاعداً يجد نفسه -أيضاً- بلا مرتب تقاعدي، في مجتمع لم يعترف بعد بالموسيقى كمهنة. أما ما تبقى من الدولة فيخلو كادرها الوظيفي من توصيف فنان، وهو وضع يزداد تعقيداً، لاسيما ونحن نتحدث عن بلد يكاد يكون بلا دولة حقيقية جراء حرب لم ينتج عنها، بعد أكثر من عامين، سوى تكريس أوضاع جديدة من الفقر والمرض، تهيئ البلد لمستقبل مخيف من التشظي والصراع. 

ولأن الخالدي لا يجيد سوى العزف فلا مكان له، خلال الحرب المستعرة، منذ مارس/آذار 2015، سوى منزله، وهو وضع طال وسيطول ويطال الكثير من المبدعين في هذا البلد، الذي زادت الحرب في إفقاره بعد أن دمرت إمكاناته. وهو ما نقرأ فيه مؤشرات خطيرة عن مآلات اليمن إذا لم يصح ضمير العالم قبل فوات الأوان، ويضع حداً للصراع الإقليمي ببيادق محلية في البلد الأفقر في الشرق الأوسط.

تدفع الشرائح المبدعة في اليمن، جراء الحرب، ثمناً باهظا من استقرارها وإنتاجها؛ فقضى خلال الحرب، عدد من الفنانين فقراً وعوزاً، وتراجعت نتيجة الصراع المسلح، تجارب عددٍ كبيرٍ من فناني التشكيل والتمثيل والموسيقى، والأخيرة لم تستطع الدولة اليمنية، خلال خمسين سنة، أن تؤسس فرقة موسيقية أوركسترالية متكاملة، وبقي البلد يشتغل على ما يشبه فرقة وطنية تشكّلت بواكيرها في السبعينيات، وبقيت، منذ التسعينيات، بدون دماء جديدة حتى تقاعد وفرّ واختفى معظم أعضائها في دروب البحث عن العيش الكريم، لدرجة لم يتبق من هذه الفرقة في صنعاء، خلال الحرب المستعرة، سوى خمسة عازفين (تحت الطلب)، وفق عازف القانون أحمد الخالدي، بالإضافة إلى مَن يعمل معهم من العازفين المتقاعدين عند تنفيذ عمل مناسباتي اضطراري. 

أحيل الفنان أحمد الخالدي (1953)، للتقاعد قبل بضع سنين، ومازال، حتى اليوم، مكانه شاغراً، ولذلك يتم استدعاؤه عند تنفيذ عمل ما… فاليمن بلا عازف قانون سواه، بالإضافة إلى عازف آخر في المحافظات الجنوبية غيّبه تقدم سنه ولم يتم تكريمه حتى اليوم؛ لأن "الحكومة في اليمن – كما يقول الخالدي ساخراً – اعتادت على تكريم الموتى لا الأحياء". 

في ظل واقع يمني لم يعر اهتماماً للموسيقيين قبل الحرب وكرس تجاهله لهذه الشريحة خلال الحرب؛ فقد أصبح ما تبقى من الموسيقيين (من أعضاء الفرقة الوطنية اليتيمة والذين لا يتجاوزون أصابع اليد) في منازلهم حتى إشعار بحاجتهم لعملٍ ما بأجرٍ زهيد، وفي مرحلة غير مسبوقة توقف فيه صرف المرتبات الحكومية في شمال اليمن منذ عشرة شهور؛ وهو ما ضاعف من مرارة حياة ما تبقى من هذه الشريحة. 

هذا هو واقع حال الموسيقي في اليمن خلال هذه الحرب، التي بسببها تراجعت الحاجة إلى تنفيذ أعمال موسيقية، وهي أعمال كانت قليلة في زمن السلم، وأصبحت نادرة في زمن الصراع، حتى تكاد تنحصر في بعض المناسبات الوطنية، وخلالها يتم استدعاء بعض العازفين، ومنهم – بالتأكيد- الفنان الخالدي، الذي ألفته العيون يتوسط، منذ أكثر من ثلاثة عقود، صدر ما تسمى "الفرقة الوطنية للموسيقى" أو ما تبقى منها. 

يتحدث الخالدي لصحيفة "القدس العربي"؛ عن تجربته؛ موضحاً أنه لا يجيد أي عمل سوى العزف على آلة القانون؛ وخلال تجربته مع هذه الآلة ومن خلالها فقد زار معظم عواصم العالم وعزف في العديد من أشهر المسارح والمنصات الثقافية في معظم الأسابيع الثقافية اليمنية خارج بلاده بصحبة أبرز أصوات الأغنية اليمنية، بل باتت معزوفاته تمثل أيقونات للموسيقى اليمنية يقدمها عدد من الإذاعات العالمية، وقبلها الإذاعات وقنوات التلفزة اليمنية، لكن ـ للأسف- بدون الإشارة إلى اسمه… إلا أن ذلك لا يُغضبه «يكفيني أن أسمع عزف موسيقى بلادي وأعرف أن ذلك العازف هو أنا".

عشق الخالدي الموسيقى منذ طفولته، وبدأ العزف على عدد من الآلات الكلاسيكية حتى أُدخلت آلة القانون للفرقة الوطنية؛ فخضع لتدريب على يد عازف مصري، لتبدأ تجربته مع هذه الآلة وتستمر حتى اليوم. 37 سنة لم تفارقه خلالها آلة القانون… يوضح: "التحقتُ بأول فرقة موسيقية في الجيش اليمني عام 1973، وانتقلت عام 1974 لوزارة الإعلام والثقافة… واستمررتُ عازفاً في الفرقة الوطنية على عددٍ من الآلات، وخلال تلك الفترة حصلتُ على دبلوم من معهد الموسيقى التابع للوزارة. وفي سنة 1980 تم إدخال آلة القانون وخلال شهر من استلامي الآلة وتعلمي العزف عليها كنتُ أشاركُ بها في الأسبوع الثقافي اليمني في الكويت مع الموسيقار أحمد فتحي عام 1980".

ويعزو الخالدي ما تحقق لتجربته مع آلة القانون إلى حبه لهذه الآلة، كما يؤكد أن تطوير مهاراته فيها هو نتاج تجربة ذاتية ومتابعة مستمرة لتجارب أشهر عازفي القانون في الوطن العربي.

خلال تجربته عزف الخالدي مع عددٍ من أشهر أصوات الأغنية اليمنية مثل: محمد مرشد ناجي (المُرشدي)، علي بن علي الأنسي، علي عبد الله السمه، أحمد السنيدار، وأحمد فتحي، وكرامة مرسال وغيرهم، بالإضافة إلى فنانين فلسطينيين وسعوديين ولبنانيين وأردنيين وآخر تجاربه مع فنانين عرب كان عزفه مع الفنانة اللبنانية هيام يونس. 

وأشار إلى معاناة الموسيقيين في اليمن منذ إنشاء الفرقة الوطنية في السبعينيات، التي إن لقيت اهتماماً في بعض المراحل؛ فإن ذلك الاهتمام يعود لاهتمام الوزير المختص… معتبراً معاناة الموسيقيين جزءاً من معاناة المشهد الثقافي عموماً، خاصة الفنون التي تحتاج إلى وعي عام مُشجِع ومهيَئ تتحول معه الفنون إلى جزء من الحياة العامة، إلا أن النظرة العامة للفنون في اليمن مازالت دونية، بل مازالت صفة الفنان تُقلل من المكانة اجتماعياً للأسف، وزادت الحرب فرمتْ بالفنان في الدرك الأسفل من الإهمال حد قوله.

وناشد الخالدي ما تبقى من المؤسسات الثقافية الحكومية في اليمن الالتفات لواقع الموسيقيين، وكل شرائح المبدعين في بلاده، الذين يدفعون ثمناً باهظاً خلال الحرب وبسببها، منوهاً بأهمية الإعلان عن دورات تدريبية لتأهيل عازفين جدد ليحلوا محل من تقاعدوا وتوفوا في الفرقة الوطنية لتلافي الخطر المُحدق بهذا المجال في بلاده، حد تعبيره. 

وأبدى استعداداً للمشاركة في التدريب وأشار إلى أن مبرر الحرب لتأجيل الالتفات لواقع شرائح المبدعين بمن فيهم الموسيقيون هو مبرر غير مقبول في ظل عددهم القليل مقابل ما ينفق من ميزانيات على أعمال لا جدوى منها. 

وقال: قد لا تتوقف الحرب إلا وقد امتلأت البلاد بالجماعات المتطرفة مقابل تراجع وانحسار شرائح المبدعين المحترفين وهو ما لا نتمناه؛ لأنه لوتم فإن رهان الحرب كان على الموت وليس على الحياة!


التعليقات