ذئاب في الصحراء.. قصة رضوخ آل سعود للإنجليز
- شبكة الجزيرة السبت, 15 سبتمبر, 2018 - 05:33 مساءً
ذئاب في الصحراء.. قصة رضوخ آل سعود للإنجليز

[ آل سعود ورضوخهم للإنجليز ]

كان الإنجليز، وعبر شركة الهند الشرقية، قد وصلوا مبلغا من القوة العسكرية، بفضل أسطولهم البحري القوي، للدرجة التي هزموا فيها المقاومة العربية الممثلة في القواسم في رأس الخيمة والشارقة في معركة بحرية شهيرة سنة 1820م، وهي المعركة التي دمرت الأسطول العربي الذي تمتّع بدرجة عالية من القوة أمام الزحف البريطاني في مياه الخليج العربي.
 
منذ ذلك الحين فرض الإنجليز سيطرتهم على الخليج العربي، وأصبح لهم مقيم سياسي بعدما كان مقيما تجاريا في أول الأمر اتخذ من مدينة بوشهر الإيرانية على الضفة الأخرى من الخليج مركزا له، وكانت مهمة هذا المقيم متابعة الشؤون التجارية والسياسية في مشيخات الساحل الخليجي، ومدى تطابقها وانسجامها مع السياسة البريطانية في تلك المنطقة، وعدم السماح للقوى الدولية المنافسة للإنجليز من فرض سيطرتها أو عقد أحلافها مع تلك المشيخات لا سيما فرنسا وألمانيا وروسيا وبالطبع الدولة العثمانية العدو الأشرس، وصاحبة الشرعية الأقدم سياسيا وروحيا في هذه المنطقة.
 
كان السعوديون في نظر السياسة البريطانية في مطلع القرن التاسع عشر مُتّهمين بأنهم يدعمون القواسم أمراء رأس الخيمة والشارقة وعملياتهم العسكرية الهجومية على الأسطول والمصالح البريطانية في الخليج العربي، وهي الهجمات التي صار يُطلق عليها في الأدبيات التاريخية التي تأخذ الجانب البريطاني اسم "القرصنة"، وهي للحق عمليات كانت مقاومة للمد والنفوذ البريطاني في مياه العرب وخليجهم.
 
الأمر الآخر الذي جعل الإنجليز ينظرون إلى الوهابيين نظرة سلبية؛ كان بسبب هجماتهم على سلطان مسقط، ومحاولاتهم المتكررة لضم هذا الإقليم إلى الدولة السعودية الأولى، وكانت بريطانيا حريصة على المحافظة على سلطنة عُمان، وتحالفها معها، وفي أثناء الصراع البريطاني ضد القواسم ومحاولاتهم المتكررة لتدمير أسطولهم حرصت على عدم الصدام مع السعوديين، وصدرت تعليمات حكومة الهند لوكيلها في الخليج بأن يتجنب "ما أمكنة إغضاب أمير الوهّابيين"، وفي سنة 1806م أثناء عقد معاهدة مع القواسم تجاهلت السلطات البريطانية تماما أي علاقة لهذه القبيلة بالسعوديين، وقد راعى الإنجليز عداء السعوديين للعثمانيين واعتبروا ذلك العداء يصب في مصالحهم العليا[1].
 
السعوديون في مناطق نفوذ الإنجليز
 
كانت وفاة حاكم مسقط السيد سلطان بوسعيد سنة 1805م قد فتح الباب لصراع الأبناء والإخوة على العرش، وفي أثناء هذا الصراع قام ابن أخي سلطان بوسعيد وهو السيد بدر بن سيف بطلب العون من السعوديين في الدرعية، وكان الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد آل سعود هو المتزعم للدولة السعودية الأولى آنذاك، وقد استغلت الدرعية هذا الطلب العُماني بالعون واستجابت له بمنتهى السرعة[2].
 
تمثلت الاستجابة السعودية من خلال قوة الحامية الوهابية في واحة البريمي على أطراف عُمان الشمالية الشرقية، وبحريا حيث أمر سعود بإبحار 15 سفينة بحرية من البحرين التي كانت تقع تحت السيادة السعودية آنذاك، وعلى متنها 1500 مقاتل، وقد أثار وصول القوات السعودية استياء العُمانيين بشدة، لكنها أحدثت فارقا في ترجيح كفة بدر بن سيف آل بوسعيد الذي سرعان ما تجدد الصراع بينه وبين أبناء أعمامه، واضطر بدر إلى طلب العون من السعوديين مرة أخرى[3]. الأمر الذي اضطر معه البريطانيون إلى تدعيم الجانب العُماني الموالي لها من أسرة آل بوسعيد، وصمتت على مقتل السيد بدر سنة 1806م على يد سعيد بن سلطان الشاب الذي كان يرى أن بدرا اغتصب حقه في السلطنة.
 
ظل السعوديون يستولون على المناطق الداخلية من عُمان، وأكدوا هذه السيطرة حين أعادوا الاستيلاء على واحة البريمي بقيادة سعد بن مطلق المطيري في خريف سنة 1807م، وكان ابن مطلق من أمهر وأقدر القادة الوهابيين كما ترى المصادر البريطانية، وقد تمكن من بناء قلعة ضخمة في البريمي، وكان يهدف من ورائها إلى مد سيطرة السعوديين على منطقة الظاهرة كلها في الجنوب الشرقي من الخليج العربي.
 
نجحت السياسة السعودية في الدولة الأولى (1744- 1818م) في تحقيق أهدافها، فمن قلعة البريمي تمكن ابن مطلق من التحالف مع أقوى زعماء المنطقة الشمالية في عُمان ووالي صحار، وعيّن كلًّا منهم مسؤولا عن منطقته وتابعا للدرعية عاصمة السعوديين في صلاحياته، بل استطاع ابن مطلق إعفاء الشيخ سلطان بن صقر من مشيخته للقواسم في خريف سنة 1808م لأنه لم يُظهر تحمّسا لقضية الوهابيين، بل تمكن من القبض عليه ونقله سجينا إلى الدرعية، وعيّن بدلا منه حسين بن علي شيخ رمس نائبا للأمير الوهابي وشيخا على القواسم، وصدرت إليه الأوامر من الدرعية باستخدام الأسطول البحري للقواسم ومعاونة الحامية السعودية في البريمي "ضد الهراطقة والمرتدين والكفار على السواء، وأن يُرسل بخُمس الغنائم التي يستولي عليها إلى الدرعية"[4] كما ورد في الوثائق السياسية للبريطانيين في الهند.
 
بيد أن البريطانيين ورغم تلك الهجمات لم يرغبوا في الدخول في صدام مباشر مع السعوديين الذين أيّدوا ودعّموا هجمات القواسم وسفنهم على السفن البريطانية، والسبب في ذلك يعود إلى أن مصالح بريطانيا في الخليج العربي كان يتابعها آنذاك السلطات البريطانية في الهند، وممثلهم في بوشهر الإيرانية، تلك السلطات التي كانت ترى إمكانية الاستنزاف التجاري لشركتهم بسبب الحرب الفرنسية البريطانية حينئذ والصراعات داخل الهند ومقاومة المسلمين للبريطانيين بها، فضلا عن توسعات السعوديين في مناطق نفوذ العثمانيين وهو ما يحقق مصلحة للبريطانيين؛ لذا كان فتح الصراع مع السعوديين في الجزيرة العربية، وهم أكبر القوى الخليجية حينذاك، غير وارد في السياسة البريطانية.
 
من هنا انصبّ الاهتمام البريطاني على تأمين مسار السفن التجارية البريطانية بين كلكُتّا في الهند والسويس في مصر، فضلا عن مسارها بين البصرة ومضيق هُرمز، الأمر الآخر أن البحرية البريطانية في الهند لم تكن تملك أكثر من 12 سفينة في سنة 1808 لتأمين ذلك المسار التجاري، ومع ذلك استمر القواسم في هجماتهم التي كانت تعوق التجارة وتستولي على السفن البريطانية[5].
 
وبسبب هجمات القواسم ومن خلفهم السعوديين الداعمين على السفن البريطانية، فقد اتخذ الإنجليز قرارهم في بداية سنة 1809م ببدء حملة بحرية هجومية على أسطول رأس الخيمة، لكنها لم تشأ أن تستعدي السعوديين كما أسلفنا، فالتزمت "بالسياسة البريطانية القديمة تجاه الوهابيين"، وصدرت التعليمات الصريحة للمقيم البريطاني بأن يتجنب أي صدام مع ممثل ابن سعود في تلك المناطق، لكن بسبب حدة المعركة التي وقعت بين الجانبين في شناص على الساحل العُماني، فإن سلاح البحرية البريطانية أراق دماء بعض السعوديين الذين أيّدوا مقاومة القواسم، حتى إن الرحالة السويسري بيركهارت يؤكد أن أحد أبناء عمومة الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد آل سعود، الإمام السعودي آنذاك، كان بين هؤلاء القتلى، وذلك في سبيل استيلاء البريطانيين على هذه القاعدة البحرية الحصينة، والحد مما رأته "قرصنة" لسفنها في الخليج العربي[6].
 
أخيرا، وجّهت السلطات البريطانية إنذارا لابن سعود تطلب منه منع أفراد القبائل الخاضعة له من ارتكاب عمليات بحرية "قرصنة" ضد الإنجليز، لا سيما في بعض إمارات الساحل وعدم دعم رحمة بن جابر في قطر، وقد استقبل السعوديون هذا الإنذار بنوع من الاستهزاء، فقد جاء ردّهم أن الدولة السعودية لا تخشى من الإنجليز، ولا ترهب من عملياتهم في البحر، لكن الأمير السعودي في المقابل بيّن أنه لا يوجد أي عداء بينه وبين "المسيحيين"، وسيعمل على منع الاعتداء على السفن البريطانية[7].
 
سنوات العاصفة
 
يرى مؤرخ الخليج ج. لوريمر أن زيادة المشاكل التي كان يواجهها السعوديون في غربي الجزيرة العربية أثناء صدامهم مع القوات المصرية بقيادة إبراهيم باشا ابن محمـد عليّ سنة 1811 و1812م واندحارهم أمام تلك الحملات، يرى أن ذلك أجبر السعوديين على بدء اتصالاتهم ومراسلاتهم الودية مع الحكومة البريطانية، ومحاولاتهم تبريد المشكلات الساخنة بينهما لا سيما مشكلة عُمان.
 
فحين اتجه سلطان مسقط السيد سالم بن سلطان آل بوسعيد إلى شيراز التماسا لعون إيران، أرسل الأمير السعودي عبد الله آل سعود مبعوثا عنه يُدعى إبراهيم بن عبد الكريم الذي اتجه إلى فارس لمقابلة حاكمها ومنها اتجه جنوبا إلى بوشهر لمقابلة المقيم البريطاني الملازم بروس، حيث نقل عنه رغبة سيده ابن سعود في قيام علاقات ودية مع الحكومة البريطانية بحيث لا يتعرض أي من الطرفين لتجارة الآخر، ورفعت هذه الرغبة إلى حكومة الهند التي قررت سنة 1814م أنه ليس من الضروري توقيع معاهدة أو اتفاقية مع السعوديين وعدم الدخول معهم في علاقات وثيقة والاكتفاء بعلاقات ودية فقط[8].
 
ولعل الإنجليز لم يريدوا إبرام اتفاق وثيق بين الجانبين نظرا للهزيمة التي كان يلقاها السعوديون من جراء الحملات المصرية على منطقة نجد، والتي نجحت بالفعل في إسقاط الدولة السعودية الأولى عقب ذلك بأربع سنوات فقط سنة 1818م، فضلا عن علاقة الإنجليز القوية بمحمد علي باشا والي مصر آنذاك.
 
حق آبائنا!
 
حين أعاد الأمير تركي آل سعود إحياء الدولة السعودية من جديد ما بين سنوات 1818-1843، ورغم المشكلات الخطيرة التي لحقت به، والتي استعرضناها في تقريرنا السابق، وهزيمته وأسْره من جديد على يد القوات المصرية، فإنه حرص على تجديد المراسلات مع الجانب البريطاني، في الجهة الأخرى ظل البريطانيون يتحاشون الدخول في عمق الجزيرة العربية حيث يسيطر السعوديون، فهمُّهم الأكبر كان تأمين تجارتهم وأسطولهم في مياه الخليج العربي.
 
وحين ارتقى فيصل إلى حكم والده تركي في 1843م أرسل إلى الممثل البريطاني في الخليج يعبر فيه عن رغبته في "تجديد العلاقات الودية التي كانت قائمة بين أبيه الأمير تركي والحكوكة البريطانية"، وقد تلقى ردّا ودّيا يؤكد له أن الحكومة البريطانية لا أهداف لها سوى المحافظة على السلام في البحر، وكرر عليه فيصل أنه هو أيضا مهتم بالمحافظة على تلك المصالح[9].
 
مع ذلك، كان الطرفان يتربصان ببعضهما لا سيما البريطانيين الذين خشوا على مصالحهم في مياه الخليج من التوسّع السعودي وإن رأوه أقل خطرا من التمدد المصري الذي وصل إلى واحة البريمي أثناء الحكم المصري لمنطقة نجد ما بين سنتي (1838-1840م)، وقد كتب المؤرخ ج. لوريمر في موسوعته الأشهر "دليل الخليج" عن السياسة البريطانية إزاء إمارة الرياض/الدولة السعودية الثانية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي "أنها تتمثل في عدم التدخل في إمارات الساحل، والمقاومة المعتدلة في سلطنة عمان، والمعارضة بلا هوادة في البحرين". وهو يرى أن هذه السياسة مبعثها "هجمات الوهابيين العدوانية المتواصلة على طول خط الساحل"[10].
 
فساحل الخليج العربي في عُمان وإمارات الساحل العماني (الإمارات العربية اليوم) والبحرين وحتى الكويت كانت كلها تقع تحت نفوذ السياسة والحماية البريطانية التي عملت على إقصاء السعوديين عنها بكل الوسائل المتاحة، دبلوماسيا كان أم عسكريا إن لزم الأمر. على أن الأمير فيصل بن تركي آل سعود كان يرى أن المناطق الساحلية في شرق الخليج العربي ملك له ولأجداده الذين سيطروا عليها بقوة السلاح والدم، فقد تحدّث إلى المبعوث البريطاني لويس بيلي موضّحا له أن دولته تشمل أراضي الجزيرة العربية من الكويت عبر القطيف ورأس الخيمة وعُمان ورأس الحد وكل ما يقع وراء ذلك، "هذا ما وهبنا الله". وأضاف أن: "مسقط تابعة لنا، وقد أخذناها بقوة السلاح". ويرى أمير الرياض أن الإنجليز عندما يفرضون حمايتهم على حكّام الساحل إنما "يتدخّلون فيما لا يعنيهم"[11].
 
دماء على ساحل الخليج!
 
نتيجة لذلك، اصطدمت السياسة البريطانية بالسياسة السعودية في تلك المناطق، لا سيما البحرين وعُمان وواحة البريمي، فقد اندلعت الصدامات بين آل سعود وآل خليفة في البحرين سنة 1850م، وحظي أمير الرياض بدعم من فرع انقلب على عائلة حكام البحرين، الأمر الذي ساعده في تكوين أسطول له، والتحضير لإنزال على جزر البحرين، بيد أن أسطولا حربيا بريطانيا أُرسل للدفاع عن البحرين، فأنقذت حاكمها من الهزيمة، واضطر فيصل إلى الاتفاق بشأن الصلح مع البحرانيين، ولكنه تمكن من جعلهم يدفعون الإتاوات والديون السابقة، كما أنه عيّن في قلعة الدمام القريبة واحدا من أفراد عائلة آل خليفة المنافسين على الحكم في البحرين[12].
 
في عام 1859م، عندما تهيأ النجديون للهجوم من جديد على البحرين، أبلغ المقيم البريطاني في منطقة الخليج الكابتن جونسون الأمير فيصل بأن الحكومة البريطانية تعتبر البحرين "إمارة مستقلة" وهي مستعدة للدفاع عنها دون أي هجمات، وذهب الإنجليز إلى أبعد من ذلك حين فرضوا عام 1861م بقوة سلاح البحرية البريطانية على شيخ البحرين اتفاقية للحماية البريطانية كالتي فُرضت على الإمارات الصغيرة في ساحل الصلح مثل الشارقة ورأس الخيمة وغيرها، وغدت البحرين محمية بريطانية، ولأجل ترسيخ ذلك الوضع السياسي والعسكري الجديد، قصف الأسطول البريطاني قلعة الدمّام، وفرّ من القلعة المنافس على حكم البحرين محمد بن عبد الله آل خليفة المدعوم من فيصل آل سعود[13].
 
أما ما يتعلق بواحة البريمي، ففي مارس/آذار 1853م استغل حاكم أبوظبي تقلص الحامية السعودية المقدرة بـ 50 عسكريا ليسارع بالاستيلاء على الواحة، الأمر الذي اعتبره فيصل إهانة تستلزم الرد، فأرسل فرقة عسكرية بقيادة ابنه عبد الله، وحين وصل، أسرع شيوخ القبائل والعشائر وحكّام إمارات الساحل للإعراب عن خضوعهم للرياض، فقد كان نفوذها كبيرا، غير أن المعتمد البريطاني في الخليج الكابتن كامبل تمكن من مقابلة أولئك الحكّام وأرغمهم على توقيع "معاهدة الصلح الدائمة"، وبقيت البريمي تابعة للحكم السعودي[14].
 
ومن البريمي التي تقع في ذلك المثلث الحدودي اليوم بين السعودية والإمارات وعُمان، فرضت إمارة نجد من تلك البقعة نفوذها على كل من إمارات الساحل (دولة الإمارات الآن) وسلطنة عُمان بالرغم من تبعية أولئك للإنجليز، وظلت مسقط وصحار وإمارات الخليج تدفع الإتاوات للرياض، ولم تكن الأراضي التي يُشرف عليها النجديون محدّدة بدقة، فهي تتقلص تارة وتتسع أخرى، لكن كان لديهم عمّال الزكاة الذين ظلوا يجمعون زكوات الناس في عموم أراضي الدولة السعودية الثانية[15].
 
كان الإنجليز يُعارضون توسع الدولة السعودية في نجد وشرق وجنوب الجزيرة العربية بعد انسحاب المصريين من الخليج، إلا أن إمارة نجد تحت حُكم فيصل استطاعت أن تنجح في تحقيق ذلك التوسع إلى درجة كبيرة، وأن تستلفت نظر الدول الأوروبية إليها، ففي سنة 1862م/1863م ظهر في الرياض وليام جيفورد بالجريف (palagraf) أحد الذين انتموا إلى طائفة الجزويت الكاثوليكية، والذي اشتهرت رحلته إلى الجزيرة العربية، وتُرجمت إلى العربية، وكان أحد كبار الجواسيس الأوروبيين الذين جاءوا إلى الجزيرة في ذلك التاريخ لاستكشاف الواقع السياسي والتقرب من حكّام تلك المنطقة لا سيما آل سعود لربطهم مع الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، وقد التقى بالفعل بالأمير فيصل آل سعود حاكم نجد، ورأى مقدار قوة دولته الناشئة ودوّن ذلك كله في رحلته.
 
خشيت بريطانيا أن تؤدي زيارة بالجريف للرياض إلى نتائج ضارة بمصالحها، ولعل هذا ما دفعها إلى الإسراع بتكليف الرائد لويس بيللي المقيم البريطاني في الخليج إلى زيارة الأمير فيصل، فقد كانت تخشى من أن يترتب على استمرار معاداتها للسعوديين أن ينتشر نفوذهم على سواحل الخليج فيضروا بتجارتها، والواقع أن كثيرا من الرؤساء المهادنين شيوخ إمارات ومشيخات الخليج قد انضموا إلى فيصل بن تركي الأول بحيث أصبح من المشكوك فيه إبقاء تعهداتهم الخاصة مع الحكومة البريطانية.
 
اعترف الأمير فيصل في محادثاته مع بيللي في الرياض أنه تلقى مرتين عروضا سخية من الحكومة الفرنسية بالمعونة، وفي الثانية منهما، وكان وقتها يتفق تماما وبعثة مستر بالجريف الذي طلب من الأمير أن يبلغ ردّه للقنصل الفرنسي في دمشق، وأبلغه الأمير بالفعل شكره، وأوضح له أنه ليس في حاجة إلى مساعدة من الجانب الفرنسي في ذلك الوقت[16]. لذلك كان الهدف من رحلة الكولونيل بيللي مقابلة الأمير فيصل في عاصمته الرياض، والحصول منه على وعد بعدم الإضرار بالتجارة، وأن يتباحث معه في الأمور الناتجة عن المصالح الخاصة بكل من الإنجليز والسعوديين في منطقة الخليح، فضلا عن إقامة علاقات الصداقة مع الحاكم الأقوى في الجزيرة العربية.
 
كانت تلك الزيارة في 6 مارس/آذار 1865م قبل وفاة الأمير فيصل بثلاثة أشهر فقط، كان فيصل في السبعينيات من عُمره، شيخا كبيرا فاقدا للبصر، رغم الاحترام والتوقير الذي كان يحظى به من أقاربه الأدنين، ومن رعاياه جميعا ممن كانوا ينادونه باللقب الديني "الإمام"، وفي المقابلتين اللتين التقى فيهما بيللي مع ابن سعود لم يتطرق النقاش إلى مشكلات محددة مثل الجزية السعودية المفروضة على سلطان مسقط عُمان حتى لا تؤثر على سير المفاوضات. كان لويس بيللي على وعي بقوة فيصل، وقد عبّر عن هذه القوة في تقريره الذي أرسله إلى مرؤوسيه في حكومة الهند البريطانية، قائلا: "لقد شعرتُ واثقا أنه إذا ما استطعتُ أن أعيد إقامة العلاقات مع حاكم مثله فإننا نستطيع أن نتوقع فائدة من نفوذه على رؤساء الساحل دون أن نخشى أن هذا النفوذ سيبذل في اتجاه يتنافى والاتجاه التقدمي"[17].
 
بالفعل، حقّقت بعثة بيللي نجاحا في تحسين علاقة الإنجليز بالسعوديين؛ فقد أظهر الأمير فيصل استعداده بمعاقبة رعاياه المشتغلين بالقرصنة على ساحل الخليج، في المقابل طالب بريطانيا بحماية سُفنه على الجانب الآخر من مياه الخليج، وبعث بتعليماته إلى الحكام التابعين له على الساحل بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الجانبين، وقُبيل وفاة الأمير فيصل بعث ابنه عبد الله إلى بيللي بتعهد رسمي من قِبل السعوديين بعدم الاعتداء على الإمارات التي ترتبط مع الحكومة البريطانية بمعاهدات خاصّة، ولا سيما سلطنة مسقط، لكن كان على تلك الإمارات تلقي الزكاة المتفق عليها كنوع من أنواع الولاء والتبعية[18].
 
ظلت العلاقات البريطانية السعودية على هذه الحالة من الوئام بين الجانبين بعد بعثة بيللي، لكن وفاة فيصل آل سعود في أواخر السنة ذاتها 1865م فتح الباب على فصل جديد، على الصراع الأول في تاريخ العائلة السعودية، وهو صراع الأبناء على عرش فيصل، وهو ما أدى إلى تجرؤ الإمارات والمشيخات الأضعف تجاه أملاك السعوديين والاستيلاء عليها واحدة خلف الأخرى، فضلا عن ضلوع البريطانيين في تلك الأحداث، فكيف حدث ذلك الصراع الخشن الذي فقدَ فيه السعوديون عرشهم ودولتهم؟ هذا ما سنقف عليه في تقريرنا القادم!


التعليقات