صبرك الثاني لا يعول عليه
الاربعاء, 26 أكتوبر, 2016 - 11:07 صباحاً

الصبرُ من أهم القيم الجوهرية والمركزية في الحياة وله في ديننا حضور أولي وأساسي يرتبط بقضية الخلق وتحديات الوجود ومهام الاستخلاف. وهو القدرة على التماسكِ. والثبات في مواجهة العواصف وتحمل المكاره. الصبر امتلاكُ السيطرةِ على النفسِ وكبحِ جِماحِها من أن تسقطَ في ردّاتِ الفعل.. ضبطٌ للأفكار والخواطر والعواطفِ والأهواءِ.. أوبةٌ إلى الداخلِ. ولملمةٌ للذاتِ المفجوعة والمصدُومة.
 
الصبرُ قدرةُ الروحِ على إخمادِ انتفاضةِ الجسدِ. عودةٌ إلى الرُّشدِ. وإلى حالةِ التوازنِ والانسجامِ والتآلفِ. والاتساق. إعادة بناءٍ للطمأنينةِ والسكينة واليقين الصلب والتصورات الحامية. تكريمٌ للنفسِ من أن تهوي بها لحظةَ انفعالٍ أو أن تُسلم زِمامها لغضبٍ أعمى. أو خسارة طارئة أو مصيبة مباغتة.
 
وهو تكريمٌ للعقلِ من أن يسقطَ في النَّزَقِ والجهَالةِ والطيش. والخفة والتصرفات الساذجة. الصبرُ نفيٌ لغواشي البصرِ والبصيرةِ، انتصارٌ في عالمِ الروحِ وكسبِ في عالمِ القيم. يهوّنُ أعتى الخطوب والحوادث وأكبر الخسارات. الصبر اختبار للإيمان والقناعاتِ الراسخةِ. امتحان للسمو والعظمةِ والأخلاقِ الفاضلةِ. والرُّقِيِّ والاكتمالِ والنُّضج..
 
الصبرُ تسامٍ عن السقوط في العنف والحمق والقصورِ، إثباتٌ للجدارةِ والشجاعةِ في تقبُّلِ الأقدار، وامتصاصِ الصدماتِ وعدم الوقوع فيما يخدُشُ الكرامةَ أو يحُطُ من كرامة وأَنَفَةِ الذات.
 
يا أنت..
 
يصعَقُكَ البلاءُ وتصدُمُكَ الحادِثاتُ. ويأمرُكَ مولاك بالصبرِ، لتعيدَ اكتشافَ ما تختزِنُهُ نفسُكَ من طاقاتٍ وقدراتٍ كامنةٍ وكنوزٍ دفينةٍ. وقوىً هائلةٍ جبارةٍ مُنتصَرةٍ، قادرةٍ على تجاوزِ الكوارثِ والمحنِ والآلامِ والابتلاءاتِ العارضة.. إنهُ الصّبر: تجميعٌ للطاقةِ وتركيزٌ لها. استنفارٌ لعواملِ التحدي والمقاومة.
 
يعَلِمُنا دائمًا معنى الاستعصاءِ وعدمِ الرُّضوخِ والاستسلامِ أو التنازلِ المُهينِ، فتمُرُّ الرزايا والعواصف الهوجاء دونَ أن تجد ما تُرَنِّحُهُ أو تُطِيحُ بهِ أرضًا. وتمرُّ بنا الابتلاءاتُ دونَ أن تجدَ في أعماقِنا ما تُهينُهُ أو تنالَ منهُ أو تضغطَ علينا بِهِ لتُجْبِرَنا على تنازلٍ مُهين. أو نكوص مشين.
 
الصبرُ. مصدرٌ لاكتشافِ عظمةِ الروح. يصقُلُ النفس لتنطلقَ أكثر عزمًا ومُضاءً. يحرِّرُنا من المخاوفِ ويكشفُ لنا أجملَ وأنقَى وأطْهَرَ ما فينا، يرفعُنا إلى المستوى الذي نُبْصِرُ فيه حقيقةَ الابتلاءِ. وننفُذُ إلى جوهرِ الخيرِ والرحمةِ والنعمةِ فيه، حيثُ ندرِكُ ونلمسُ القدرةَ المربِّيةَ والموجِّهة في كل ابتلاء {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}.
 
ليلتها كان رفقة عائلته في مدينة الملاهي كانت طفلته الصغيرة في حضنه في حلبة السيارات الكهربائية وإذا بابنته الكبرى تعترضهما بسيارة أخرى ليرتطم وجه الصغيرة بالمقود الحديدي الصلب وإذا بخدها ينتفخ فجأة وكأن وجنتها قد كسرت. راحت تبكي بفزع وراح يجمع أهله وينطلق بهم مفجوعا بحثا عن أقرب مشفى. راح يقود بسرعة غير مبال بأحد. وكاد يصطدم بامرأة كبيرة في الطريق. أمطرته بوابل من السباب والدعوات الغاضبة. ولم يقف ليعتذر بل مضى يرد عليها بشتائم بالغة الشناعة. لحظتها دهمه شعور ذابح بالخجل. أدرك أنه فشل في اختبار الصبر. ولاح له ابن عربي مبكتا: "صبرك الثاني لا يعول عليه" وذلك مصداقا لحديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
 
وصل المشفى وأكمل الإجراءات الإسعافية. واطمأن على سلامة طفلته في حين شعر أن روحه مليئة بالجراح والكدمات تحتاج إلى كثير من الرعاية والعناية.

* الشرق القطرية

التعليقات