لماذا حلب.. لماذا تعز؟
الاربعاء, 26 أكتوبر, 2016 - 11:32 صباحاً

شكل تركيز نظام الأسد الدموي على حلب، كما هو الحال في اليمن في استهداف المخلوع ومن ورائه الحوثيين مدينة تعز، لغزًا في تحول بعض المدن في الدول إلى نقطة فاصلة في انهيار الدولة وأفولها، حيث يسقط النظامان البعثي والحزبي في سوريا واليمن ليس بتحرير صنعاء أو دمشق بل بسقوط حلب وتعز لأسباب تتصل بالتاريخ والجغرافيا وطبيعة الكتل الثقافية والسياسية، إضافة إلى التركيبة السكانية، وهي عوامل تلغي محددات الأقلية والأكثرية التي باتت موضة الغرب في قراءة ملفات المنطقة السياسية.
 
وإذا كان الغرب بدا مضطربًا في فهم تاريخ المنطقة الحديث وتشكلات القوى الفاعلة فيه، فإنه أكثر ارتباكًا في فهم جغرافيا المنطقة ومناطق ثقلها السياسي باعتبار وجود مدن مفارقة لجغرافيتها، لأنها تختزل قوة الأنظمة القمعية بسبب تراكم العمل الحزبي من جهة كما في تعز، أو بسبب تضخم كتلة المعارضة والممانعة لانفراد النظام بالسلطة المطلقة كما في حلب.
 
حين نجح حلفاء الأسد في دفعه لقطع الطريق على حلب، تحول مسار الأزمة السورية بالكامل في وقت كان الجميع يعتقد جازمًا أن أيام النظام باتت معدودة قبل أن تدخل روسيا على الخط لتعزز قراءة الأنظمة الشمولية لمناطقها بعيدًا عن التعميمات والترسيمات الغربية الفضفاضة، فأصبح سقوط حلب بوابة لقطع الطريق على طول الحدود التركية السورية، وهو ما يعني قطع شريان الإمداد وتراجع قوة المعارضة السورية في المدينة ودفع كل المناطق الأخرى للتحالف مع نظام الأسد على طريقة فرض الأمر الواقع، وهو ما دفع قوات النظام محمولة بمقاتلي الميليشيات الشيعية إلى ملاحقة المقاومة السورية في مناطق الريف وإهمال وجود تنظيم «داعش» على الشريط الحدودي الضيق بين تركيا وحلب «أعزاز»، وكانت العلامة الفارقة في الحضور السوري هي تجاهل الأكراد أيضًا في هدفهم لإيجاد صيغة استقلال ولو جزئية، لأن النظام يدرك أن حملاً كهذا يمكن أن تنوء به تركيا إردوغان، وهو ما يفسر خروج تركيا من المشهد السوري بطريقة مثيرة للتساؤل ودخولها في معركة الموصل بشكل فعّال وقوي بل وباشتراطات تصل إلى حد التلويح بالتصعيد ضد الحكومة العراقية، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة تجاه كل الدول المتداخلة عسكريًا في المستنقع السوري عن أهدافها الحقيقية، التي ربما كانت نصرة الشعب وإنهاء الأزمة مجرد شعارات تستبطن مصالحها الخاصة، وهذا متفهم في عالم السياسة لكن بطريقة زادت من تعقيد الأزمة وأصبحنا في مقامرة عسكرية تتبدل معادلاتها مع تبدل الظروف على الأرض من تقدم النظام أو المعارضة.
 
أهداف روسيا في سوريا واضحة حتى وإن بدت غير معلنة، وهي إبقاء النظام على قيد الحياة ولو في حال شلل سريري لا يتجاوز المنطقة العلوية الساحلية، وهو ما يفسر نشر قواتها اللوجستية هناك وطرد المقاومة من المدن الكبرى وإرجاعهم إلى مربع الثوار الريفيين الذين يهددون مصلحة البلاد والسيطرة على الإمدادات الخارجية، بحسب فابريس بالونش الذي كتب دراسة مهمة عن استهداف حلب باعتبارها رقعة الشطرنج السورية، مضيفًا أن أهداف روسيا تحققت بفعل هذه الاستراتيجية لتجزئة جغرافيا سوريا والتعامل مع كل منطقة بحسب أهميتها الجغرافية، حيث لم تقع أي مدينة كبرى منذ التدخل الروسي تحت سيطرة المقاومة، كما أن الغطاء الجوي وميليشيات المقاتلين الشيعة عوضت هشاشة جيش نظام الأسد الذي يبدو أنه في أسوأ حالاته.
 
وكما هو حال نظام الأسد يبدو نظام المخلوع علي صالح ومن ورائه ميليشيا الحوثي على نفس خطى الأسد، كما كتبت سابقًا، ليس في اختزال الدولة في حزبه ونظامه بل وفي اللعب على عامل الوقت أكبر فترة ممكنة وانتهاك كل المواثيق والمعاهدات وخرق إيقاف الحرب، لعلمه أنه لا يملك أوراقًا تفاوضية بعد أن تحررت أكثر من 80٪ من البلاد، لكنه يملك ورقة مفصلية وهي «تعز» بما تحمله من عمق سابق لحزبه السياسي وللكتل السياسية الفاعلة في اليمن، ولإدراك النظامين أن العالم بمؤسساته ودوله الكبرى بدأ يشعر بالملل من هذا الجزء من العالم ويسعى الجميع لخلق تسويات سريعة قد تساهم في تضخم نظام الأسد وصالح لاحقًا في حال بقاء حالة اللاحسم لفترة طويلة، فالنظامان ليس لديهما ما يخسرانه، وهما يدركان أن الوقت مبكر للوصول إلى حالة الاختناق للدوائر الضيقة المحيطة بهما وإن ذهب معظم الشعب إلى جحيم الموت والفقر والأمراض، ففي النهاية يمكن تحويل هذه الكوارث إلى أوراق تفاوضية بالضغط على الجماعات الحقوقية أو الدول الكبرى التي تحاول معالجة العرض وإهمال المسبب في ظل حالة الهلع من التنظيمات الإرهابية، وهو هلع مشروع ومبرر، لكنه غير كاف لاستبدال إرهاب الدولة والميليشيات المسلحة الموالية لها بإرهاب التنظيمات.
 
وإذا كان الأمر بدا معقدًا في حلب فإنه أكثر وضوحًا في تعز اليمنية، فكل الثورات اليمنية منذ سقوط الإمامة مرّت بهذه المدينة، كما أن التركيبة السياسية لها يمكن أن تشكل النواة الأكبر لأي حكومة مقبلة بفضل تاريخ الممارسة السياسية، كما أن منسوب المواطنة بعيد عن شكلانية حزب المؤتمر بقواعده القبلية في الشمال أو بارتباكه في جنوب اليمن وعدن، عطفًا على تداخل حركات ما قبل الوحدة وما بعدها وعدم وجود هويّة تسع اليمن كاملاً بعيدًا عن نوستالجيا الجنوب المنفصل الذي ربما كان حلاً سهلاً لكنه سيزيد من تعقيد باقي المناطق في حال اللجوء له مع اليأس من تطور الحالة السياسية اليمنية.
 
مدينة تعز هي بوابة تحرير اليمن، ولذا يمكن فهم هذا التحالف بين نظام المخلوع وجماعة الحوثي؛ الأول في استثمار قوته الحزبية سابقًا في المدينة، والثاني في محاولة الوصول إلى شريان اليمن السياسي الذي إذا تمكن من السيطرة عليه قاده إلى تعميم انتشاره بقوة السلاح في باقي المناطق.
 
ورغم بقاء صنعاء كل هذا الوقت في يد المخلوع والحوثي ليس بسبب سهولة السيطرة العسكرية على المدينة بل لسهولة الحشد القبلي والسياسي والمناطقي لما يسمى «أهل مطلع» باعتبار أنها معركتهم الوجودية، فإن هذا لن يكون كافيًا أبدًا حتى للتفاوض على أي صيغة سياسية في ظل بقاء تعز صامدة ومستقلة كما هو الحال في حلب الشهباء.. هكذا قدر مدن شكلها التاريخ لتصبح عواصم تختزل قوة الدولة «قيامًا وحطامًا».
 
* نقلا عن "الشرق الأوسط"
 

التعليقات