حين تكون الغربة وطنًا
الثلاثاء, 06 ديسمبر, 2016 - 06:52 مساءً

"الغنى في الغربة وطن".. قالها "أرسطاليس" قديما مختزلا أهم بواعث الاغتراب.
 
لا مقام حيث يقيم الفقر ولا وطن حيث تستوطن الفاقة. الفقر منفى والأرض الفقيرة منفى ودار اغتراب وعذاب. إن أشد أنواع الغربة الغربة الداخلية اغتراب الإنسان داخل وطنه، غربته بين أهله، وحشته وسط مجتمعه.
 
تغدو الأوطان منافي حين تضيق سبل العيش وتتلاشى فرص العمل والكسب، حين تنعدم إمكانية العيش الكريم، حين تتقلص الخيارات وتذوي الأحلام والآمال. تغدو الأوطان منافي أكثر قسوة حين تصير بيئات طاردة أسهل ما فيها الموت وأصعب ما فيها الحياة.
 
أدرك العربي القديم بفطرته السليمة الحرة أهمية عدم الرضوخ للخيارات القاهرة، أدرك أهمية النظر دائما صوب الفضاءات المفتوحة حين ينسد الأفق وتنعدم إمكانات الحياة.
 
"وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى... وفيها لمن خاف القلى متعزل"
 
بحسب الشنفرى وهو واحد من الصعاليك العرب الأحرار الوجوديين الأوائل، الذين أغنوا خطاب الخروج على المواضعات السالبة للحرية والكرامة منذ القدم، ويحفل شعرهم بالرحيل والانفلات والتطواف ورفض العيش في أسر الضعة وقيد الحاجة. وقد كان لهم في اليمن امتدادات وأسماء لامعة في عوالم الصعلكة بمعناها الشريف والنبيل المتوارث، على رأسهم فارس همدان وشاعرها الكبير عمرو ابن براقة الهمداني وسواه من المشاهير الذين يمثلون الروح النافرة الشرود المتأبية على الخضوع للمذلة والرضوخ للهوان.
 
لهؤلاء خطاب فلسفي متقدم حول الحرية والمال، وعلاقة الإنسان بالإنسان ومفهوم الوطن الحر الذي تتوفر فيه إمكانات الوجود والتحقق.
 
جاء القران الكريم في أكثر من موضع ليؤكد في تساوق لافت على كثير من قيم الفطرة التي ألح على تأكيدها هؤلاء الذين لا تزال تطاردهم الفهوم القاصرة حتى اليوم قيم الفطرة الإنسانية المجبولة على حب الحرية ونشدان عيش الأحرار والتأبي على اشتراطات القهر والفقر والعبودية هذه القيم.
 
في بيت الشنفرى السالف يلفت النظر إلى الأرض المبسوطة أمام الكريم في حال خاف القلى والهجران والخذلان، ويأتي القران ليؤكد هذا المعنى بالضبط، حيث نجد الأرض خيارا فسيحا أمام كل من ضاقت بهم الخيارات.
 
" ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" كما قال المولى عز وجل، ويحفل القران الكريم بإشارات مماثلة عديدة في أكثر من موضع تعزز هذا النزوع الحر الأصيل.
 
تعلمنا أخلاق الحرية ألا نرهن أنفسنا لخيار وحيد قد يكلفنا كراماتنا وتنازلنا عن إنسانيتنا وأهم مقومات وموجبات الوجود. ثمة فرص كثيرة في انتظارنا فقط علينا أن نركض باتجاهها وأن نتهيأ لالتقاطها. ورغم آلام الغربة وأشجانها، لا يسع المرء إلا أن يغامر أحيانا مستعذبا العذاب في سبيل بقائه حرا عزيزا موفور الكرامة، تهون الغربة وتهون أحزانها ما دامت في سبيل المقام العزيز كما في جواب أبي الصعاليك عروة ابن الورد لامرأته وهي تلح عليه بالقعود بين أهله خائفة من تعرضه للهلكة "لعمرك إني للمقام أطوف"، هكذا يفلسف عروة خروجه بكلمات لم تفقدها الأيام معناها العميق.
 
أحيانا قد لا تكون الغربة في تطلب الغنى المادي فثمة غربة في سبيل الغنى المعنوي، ثمة غربة من أجل العلم والبحث والدراسة وأخرى من أجل السياحة بحثا عن الجديد وتجاوزا للرتابة، قد تكون سفرا للقلب والعقل نحو عوالم أكثر ثراء وخصبا تعود على الروح والجسد بالكثير مما لا توفره الحياة الراكدة.
 
"رأيت بقاء المرء في الحي مخلقا لديباجتيه.. فاغترب تتجدد"
 
اليمن بلد الهجرات مذ كان تاريخها أسفارا ممتدة، لها في كل العوالم معالم ولها في كل أفق مقام. لا يزال اليمني مواطنا عالميا بامتياز "جواب عصور وآفاق" موطنه الأرض كل الأرض، ولد مجنحا رحبا مشدودا إلى كل سماء بعيدة "كثير الهوى شتى النوى والمسالك" عصيا على القيود والحدود لا يعرف التقوقع والانكفاء.
 
* عن الشرق القطرية

التعليقات