أزمة اليمن.. السياق الراهن والحل السعودي الإماراتي
الثلاثاء, 18 يوليو, 2017 - 10:34 صباحاً

رهان عودة نظام صالح الإمارات وصناعة الحشد الجنوبي 

في مطلع الشهر الجاري أوردت نشرية "إنتلجنس أون لاين" الفرنسية خبرًا يقول إن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد يدفع نحو الإطاحة بالرئيس اليمني عبد ربه هادي، وإن اللواء أحمد عسيري (نائب رئيس المخابرات العامة السعودية) ذهب إلى الإمارات للقاء نجل صالح والتباحث معه.

ما تهمنا مناقشته في هذا الموضوع أمران: إمكانيّة رجوع أحمد علي صالح (نجل الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح) للعب دور في السياسة اليمنيّة، وأسباب دعم الإمارات أولًا والسعودية ثانيًا لهذه العودة، ومدى سلامة الافتراض القائل إن عودة نجل صالح ستسرع إنهاء الاقتتال والانتقال إلى مرحلة مستقرة في اليمن.

رهان عودة نظام صالح

في الداخل اليمني عوامل تسهّل دفع السعودية والإمارات لاعتبار عودة نجل صالح أحد مكونات الحل السياسي. منها أولًا، أن قوات الحرس الجمهوري -وهو القطاع الأحدث تسليحًا في القوات اليمنيّة والأفضل تدريبًا- تتضمن عقيدته العسكريّة ولاءً لشخص أحمد ووالده علي.

ورغم أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب -من الجانب المادي- كان علي صالح بوصف قواته جيشًا نظاميًا لديه كوادر مدربة وقواعد ومعسكرات وعتاد ثقيل؛ فإن هذه القوات بقيت تقاتل على أكثر من جبهة ولا يزال عتادها وافرًا. وهذا العامل يشكّل ضمانًا للسعودية والإمارات باستقرار الأوضاع الأمنية في الشمال تجنبًا لتكاليف التعامل مع الفوضى التي جربتها هاتان الدولتان في الجنوب.

كما يشكل ضمانًا بمقدرة هذه القوات -في حال التوافق مع نجل صالح- على إعادة الحركة الحوثيّة إلى حجمها الطبيعي، كمليشيا طائفية تجيد حرب العصابات وليس أكثر من ذلك. وبهذا تُوكل لهذه القوات مهمة الحد من خطر الحوثيين، والتحقيق الجزئي لهدف السعودية الذي فشلت حربها في تحقيقه.

هذا بالإضافة إلى وجود قواعد اجتماعيّة داعمة لصالح ونجله ممثلة في حزب المؤتمر الشعبي العام، مع فشل الرئيس هادي في شق القواعد الاجتماعية للحزب لأسباب كثيرة، منها تطابق الحزب مع شخص علي صالح وأسرته في وعي قواعده، والفشل الذريع لهادي وحكومته منذ 2012 في تقديم نموذج أفضل في إدارة الدولة وتفاصيل الحياة اليومية للناس وفي الخطاب السياسي.

هذا رغم نجاحه النسبي في سحب بعض القيادات السياسية المهمة في الحزب، وكلهم من رجالات صالح وأعوانه. وهكذا فإن المؤتمر الشعبي وولاءه لصالح ونجله يدفع قيادتيْ السعودية والإمارات إلى الاعتقاد بأن عودة أحمد علي -إذا تم تكييفها بوسائل قانونيّة صوريّة- سيكون لها سند اجتماعي يضمن استقرار السلطة والداخل.

العامل الثالث هو الجانب القبلي؛ فالأنظمة الخليجية خاصة -وكثير من الدول العربيّة عمومًا- لا تزال تتعامل مع المجتمعات العربيّة باعتبارها تجمعًا للعشائر والقبائل، ومنذ منشأ الدول الخليجية كان البعد العشائري مكوِّنًا للسلطة وتوازناتها. وبعد الطفرة النفطية ظلت الأسر الحاكمة تراهن على دور العشائر في تكريس الاستقرار الاجتماعي واستمرار السلطة السياسية، رغم اختلال التوازن لصالح هذه الأسر.

من المعروف لجميع المتابعين للشأن اليمني أن السعودية كانت -منذ اندلاع ثورة سبتمبر/أيلول 1962- تركز على استمالة مشايخ القبائل في شمال اليمن، كمدخل لتأمين حدودها واختراق المجتمع باعتبار أن النظام في اليمن نظام عصبوي يرتكز على القبليّة لتأمين نفسه، وكانت تدعم بأموال طائلة -عبر ما يُعرف باللجنة الخاصة- مشايخ القبائل وليس فقط قادة الأحزاب ومسؤولي الدولة الكبار.

ترى السعودية حاليًا أنها فشلت في إنتاج أو إعادة تدوير أي قيادة يمنيّة تحظى بدعم قبلي شمالي، هذا علاوة على أن الرئيس هادي ليس من المنطقة الشماليّة ابتداءً، وهو لا يحظى بأي دعم قبلي حقيقي في منطقة "أبين" التي يتحدر منها.

بالإضافة إلى كل هذا؛ هناك عاملان أخيران يجعلان أي حل يقود إلى إنهاء الحرب ممكن الطرح، ولا يُتوقع أن يقابَل برفض اجتماعي يمني عارم: الأول، هو أن القيادات السياسية والعسكريّة اليمنية -التي بإمكانها التعبير عن المعارضة المنظمة والرفض لأي طرح- قد رمت كل أوراقها منذ أول يوم من الحرب في يد النظام السعودي، وهذا عمومًا خلل عام في الثقافة السياسية اليمنيّة وله جذور تحتاج استقصاءً مستقلًا.

والثاني هو الحالة المزرية التي وصلت إليها شروط حياة المواطن اليمني: انقطاع لرواتب الموظفين، ومجاعة تطل برأسها في كل مكان، وانقطاع تام للكهرباء، وانتشار وباء الكوليرا، وغيابُ الحد الأدنى من مؤسسات الدولة، وتحكمُ المليشيات المختلفة في الحياة اليوميّة للناس شمالًا وجنوبًا وما يتبع ذلك من انتشار للجرائم. وهذان العاملان يضمنان للقيادتين السعودية والإماراتيّة قبولًا مفتوحًا (دوليًا ويمنيًا) بأي حل لإنهاء الحرب.

ما تغفله قيادتا الدولتين في هذا الأمر هو المجتمع اليمني كتطلعات اجتماعية وطبيعة السلطة في اليمن. في رأينا، عودة نجل صالح أمر مرجح وتتضاعف احتماليّته مع الوقت، وقد تكون هذه العودة ضمن مركّب من الشروط والخطوات بداية بإنهاء الحرب وتأمين الحدود الجنوبية للسعودية على المدى القصير.

ولكن اليمن -كمجتمع وسلطة- لن يستقر بسياسات كهذه، لأن منشأ الحرب كان نتاج عرقلة وفشل الثورة في السيطرة على الدولة، أي أن منبع الإشكال كان في شكل الدولة وبنية النظام وتعامل السعودية مع الواقع اليمني. وعليه؛ فإن عودة أحمد علي قد تنهي واحدًا من مظاهر الإشكال اليمني جزئيًا وهو الحرب، ولكنها ستفاقم الإشكال نفسه وستبذر بذور حروب كثيرة قادمة.

من جانب آخر، هناك المشكلة المؤرقة لكل مشاريع الخارج والداخل، وهي محافظة تعز التي لا يتم وضعها في الحسبان، وكأنها مشكلة ستُحل ذاتيًا بمجرد أن تحل السعودية خلافها مع تحالف صالح والحوثي، وهذا أمر مستبعد لاعتبارات عديدة ومتشابكة. كما أن اليمن عمومًا -رغم تخلفه الاقتصادي الشديد- يتميز بحيويّة مجتمعه السياسي، وتعدد الأقطاب الاجتماعية الصلبة فيه (مثل القبائل والحركة الحوثيّة كمليشيا طائفيّة).

وبالتالي فالدولة اليمنيّة بعد 2011 لا يمكن أن تدار على المدى المتوسط، وستستمر في حالة استقرار منتِـج بدون حل جذري للمشاكل الاقتصادية والسياسية. وهذا ما يغيب عن وعي السياسة العربيّة الرسميّة عمومًا، الذي يفضل التعامل مع الظواهر وليس الجذور.

وهكذا نجد السعودية تصدر قوانين ولوائح تقوم بإفقار المغتربين اليمنيين فيها وتدمير رواتبهم، وهم الذين تشكل تحويلاتهم آخر مصدر إعاشة متبقٍ للعائلات في اليمن، وذلك في نفس الوقت الذي يتم فيه البحث عن حل سياسي يوقف الحرب!

الإمارات وصناعة الحشد الجنوبي

يمثل جنوب اليمن أهميّة قصوى في الإستراتيجيّة الإماراتيّة الخاصة بنفوذها البحري، وهذا على خلاف السعوديّة التي ترى التهديد الأكبر في شمال اليمن بسبب الحدود الطويلة معه.

النفوذ البحري والسيطرة على الموانئ يفسر كثيرًا من خطوات وسياسات الإمارات بعد الحرب وقبلها؛ فالتفاهم العالي مع نظام علي صالح قادم من خدمة الأخير للمصالح الإماراتيّة بوضوح على حساب المصالح اليمنيّة حينما أجّر النظام ميناء عدن رسميًا لشركة موانئ دبي العالميّة عام 2008، في واحدة من كبريات قضايا الفساد في تاريخ الدولة اليمنيّة.

اشتركت الإمارات في الحملة العسكريّة عام 2015 لضمان السيطرة على موانئ الجنوب تحديدًا، ولهذا سحبت قواتها بسرعة من مأرب في الشمال بعد تلقيها ضربة صاروخيّة تسببت في مقتل العشرات من جنودها، بينما تدفع بكل ثقلها في الجنوب اليمني للسيطرة التامة عليه، وشاركت بقوة في السيطرة على ميناء المخا التابع لمحافظة تعز.

بعد طرد قوات صالح والحوثي من عدن في يوليو/تموز 2015؛ وجدت الإمارات نفسها في منطقة جغرافيّة تختلف جزئيًا عن الشمال، في طبيعة تحالفاتها الاجتماعية وانتشار النزعات الجهوية والقبلية، مع تراكم لأزمات تاريخيّة تخص الريف والمدينة ووجود قوى سياسية انفصالية تتصارع فيما بينها، وظهور جماعات إسلامية مسلحة، مثل تنظيم القاعدة في قلب المحافظات الجنوبية الكبرى (عدن وحضرموت وأبين). 
نتيجة الرؤية الواضحة لما تريده في جنوب اليمن؛ بحثت الإمارات عن أطراف يمكنها تحقيق مصالحها في الجنوب فوجدت طرفين:

الطرف الأول يمثله قطاع من الحراك الجنوبي يتميز بتصورات شوفينيّة، وظل طوال سنوات غير قادر على إنجاز خطوات سياسية كبيرة، وذلك لتعدد مصادر الدعم الخارجي وخلافات قادته الذين يعدّ عيدروس الزبيدي من أهمهم، والخطوة الإضافية الخطيرة التي أنجزتها الإمارات أنها رجحت كفة هذا الطرف بحيث أصبح مركز جذبٍ لبقيّة أطراف الحراك الجنوبي. 

الطرف الآخر المطلوب كان طرفًا سلفيًا بدون سقف وطني، ولم يكن هذا الطرف سهل التشكيل على خلاف ما يُعتقد؛ لأن السلفية غير "الجهاديّة" في اليمن عمومًا تختلف فيما بينها اختلافات كبيرة في موقفها من الدولة والسياسة، ولدى بعضها تاريخ من العمل الجمعياتي وكذلك من الصراع الكلامي البيني.

في جنوب اليمن بعض الدُّور العلميّة التابعة للسلفيّة، ولكن الطرفين السلفيَين المهمَين وغير "الجهاديين" هما "جمعيّة الإحسان الخيريّة" ثم "حركة النهضة السلفيّة في الجنوب"، وهذه الأخيرة تحديدًا تمتاز بمواقف ورؤى سياسية متقدمة كثيرًا عن بقية القوى السلفيّة، بل إن موقفها من مسألة الانفصال أكثر عقلانيّة من مواقف جزء كبير من الحراك الجنوبي.

وهكذا فإن ما قامت به الإمارات هو صنع طرفٍ سلفيٍ جديدٍ بقيادة هاني بن بريك -وهو أحد تلاميذ الشيخ مقبل الوادعي-  بمواصفات خاصة، تقطع مع الإرث السلفي غير "الجهادي" المتراكم في الجنوب منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي. وأهميّة هذا الطرف للإمارات تقارب أهميّة قوات الحشد الشعبي للإستراتيجية الإيرانيّة في العراق.

فـ"قوات الحزام الأمني" بقيادة بن بريك تقاتل القاعدة وبقية التنظيمات المسلحة، ولها تصورات عن المجتمع لا تختلف مطلقًا عن تصورات القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلاميّة، وهي تتبع مباشرة القيادة الإماراتيّة.

مكاسب الإمارات أمنيًا كبيرة من هذه السياسة على المدى القصير؛ فبالإضافة إلى محاربة طرف خطير مثل القاعدة وبأقل التكاليف الممكنة، تحصل على الدعم الأميركي لهذه القوات المتشددة والطائفية لأنها تشارك في "محاربة الإرهاب"، ويتم التغاضي عن بقية ممارساتها مثل الاعتقالات والإخفاء القسري والتعذيب والاغتيالات. وهذا يعني أن الإمارات قد سلمت مدينة عدن لهذا التيار السلفي في مقابل تبعيّته التامة لسياساتها. 

ذروة التقاء هذين الطرفين (الزبيدي وبن بريك) عند الإمارات هو تشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي، ويبدو أنه في حُمّى السعي لنيل الإعجاب والثقة يتنافس كل من الطرفين في استعارة خطاب وممارسات الآخر للتقرّب أكثر من القيادة الإماراتيّة، وكانت النتيجة النهائية لها التنافس ظهور حراك انفصالي طائفي وسلفيّة انفصاليّة متطرّفة.

تراهن الإمارات على هذا المجلس الانتقالي وتدعمه أمنيًا وعسكريًا. وفي موضوع الرئيس هادي؛ يلتقي دعم المجلس مع دعم عودة نجل صالح، فعودة الأخير إذا حدثت ستكون حلًا لمشكلة الإمارات مع الرئيس هادي الذي لا يتوافق مع سياسات الإمارات في الجنوب وتعتبره ورقة سعودية. ولهذا فهي تحاول بشتى الطرق القضاء على أي ظهور سياسي لهادي وتدعم إطاحته عبر نجل صالح، كما تدعم ذهاب المجلس نحو صدام مباشر مع حكومة هادي.

نتوقع أنه في حال عودة نجل صالح سيتم التوافق معه بشأن ملفات متشابكة ولكن ليس من بينها الجنوب؛ فهذه مسألة إستراتيجيّة في رأينا بالنسبة للإمارات، ولهذا فهي ستكون خارجة عن أي نقاش باستثناء الأمور الرسميّة والشكليّات. وزيارة أطراف من الحراك الجنوبي لنجل صالح في الإمارات -كما أفادت به الأخبار- تأتي في إطار تشكيل ومناقشة هذه الأمور الرسميّة، لضمان عودة سلسة لنجل صالح تظهره شخصية تحظى بـ"إجماع كل الأطراف".

مشكلة هذا التصور الإماراتي أنه يتعامى عن طبيعة المجتمع في الجنوب ومراكز القوة فيه؛ فهناك نزعات جهويّة طاغيّة في هذه المنطقة التي تحمل تاريخ سلطناتٍ مضفورًا بتاريخ سياسات دولة شيوعيّة ونتائجها الاجتماعيّة، وتاريخ من التوتر المناطقي.

هذا إضافة إلى المساحة الجغرافية الكبيرة نسبيًا، ووجود قوي ومتجذر للتنظيمات المسلحة فيها منذ سنوات طويلة، ولا تمكن مواجهتها بدون حلول اجتماعية وسياسيّة لها سقف وطني وتنجزها دولة مواطنين.
وبالتالي فسطوة الإمارات في الجنوب لا يقدر لها البقاء على المدى الطويل، خاصة في ظل سياساتها الأمنية القمعيّة المستفزة للمجتمع، وستخلف نتائج سياساتها هذه كثيرًا من الكوارث الاجتماعيّة التي تهدد شكل المجتمع اليمني ووجود الدولة من الأساس.

*الجزيرة نت 

التعليقات