أن تحب لأجل الألم
الخميس, 04 يناير, 2018 - 12:08 صباحاً

مع عبدالحليم حافظ يكون الحب مستحيلاً، وهو ما اتسمت عليه شخصيته المترفة بالحزن، حتى وإن انتهت اغنيته الرائعة "فاتت جنبنا" بصورة سعيدة والمحبوبة تخبره بانها تضحك له الاسمراني، من البداية.
 
مثلت اغاني عبدالحليم جوهر الحزن، ان تبني الحب على اشباع مازوخي، كما لو كان العاشق يستلذ الألم بل ويطارد الحب من اجل عذابه. ان تحب على طريقة عبدالحليم ان تبحث عن حب مستحيل، او تطارد حباً في خيط دخان. هل كان حباً مازوخياً ما اراد؟
 
قدم عبدالحليم اغنية موعود في اول السبعينيات، وملحنها بليغ حمدي استحضر قطبي شخصية حليم الغنائية في التلحين كمال الطويل ومحمد الموجي، وهو الذي نفخ اغاني السبعينيات بزخم الفولكلور الشعبي المصري وايقاعات حيوية حققت نجاحاً لدى الجمهور العربي.
 
بدأت الأغنية بمقدمة موسيقية طويلة، غلب عليها المقام الرئيسي للأغنية النهاوند. مع تحويلات على الكرد والبيات والحجاز كما اظن. ثم هناك اللازمة المتكررة على الجيتار ومن المقام الرئيسي، ويمكن ملاحظة تشابه في بعض التحويلات اللحنية مع مقدمة "مداح القمر" لنفس الملحن، ولحن الاغنيتين في فترة متقاربة اول السبعينيات.
 
يبدأ الغناء من مقام النهاوند "موعود معايا في العذاب.. ويستمر في المقطع الثاني بالنهاوند: وعمرك ماشفت معايا فرح كل مرة ترجع المشوار بجرح.. ثم ينتقل الى الكرد والنهاردة جاي تقولي انسى الآهات.. ومع المذهب يبدأ في الكرد "وميل وحدف منديله... حتى يتحول الى النهاوند في النهاية ونقول للحب استنى استنى. التحولات المقامية جزء مهم في الغناء العربي، لكنها في اغاني عبدالحليم اكثر تبسيطاً، وتتناسب مع خامة صوته وتوجهات الغناء الجديدة آنذاك.
 
استطاع عبدالحليم بمساحة صوته المحدودة، لكن بعذوبته، ان يشكل فارقاً في اسلوب الغناء، لقد تحول الغناء معه من االحنجرة الى اعماق الصدر، ليصبح تعبيراً. وهو التحول في الغناء الى رومانتيكية تصويرية او تعبيرية. عندما قدم اغنيته لأول مرة امام الجمهور، "في يوم في شهر، في سنة" وهي اغنية من مقام العجم، قال انها بحاجة لأن تُسمع لأنها ليست اغنية بل تعبير. وبوعي رومانسي كان يمتدح مشاعرها الجياشة بالحزن والتعبير عن الم الحب؛ وعمر جرحي انا اطول من الأيام. والأغنية لحنها احد اكثر الملحنين موهبة في مصر.
 
يتحول الغناء من قالب الاستعراض الصوتي الى شغف التعبير الحسي. عبدالحليم اكثر من مثل ذلك الاتجاه الفني في الغناء العربي. احالت الرومانتيكية الموسيقى من قالب يوظف المضامين اللحنية، الى عاطفة تكرس تلك المضامين، لتعطي التعبير العاطفي الحيز الأكبر في الأسلوب الغنائي. اي تكون عاطفة او انفعال او حتى وصفاً، وهو التحول من الموضوعي الى الذاتي.
 
يستمر النهاوند في اللازمة الموسيقية للكوبليه الأول وكذلك الغناء "تاني تاني ح نروح للحب تاني والنار والعذاب.
 
ثم ينتقل الى البيات في آه ياليلي يا حضن السهارى، ثم يعود الى النهاوند "خلي فجر الحب يطلع يملأ ..... سنرى هذا التبادل المقامي في كوبليه اخر بطريقة مختلفة بين النهاوند والبيات. وهنا لا يكون استخدام البيات رغم ما فيه من تطريب لأجل التطريب بحد ذاته، بل للتعبير. كما سنلاحظ الاختلاف الايقاعي بين، والغناء دون ايقاع. ويعود للمذهب بداية من الكرد وانتهاء بالنهاوند.
 
سنلاحظ في كثير من الأغاني الطويلة اتاحة مساحة لمقام شرقي خالص بربع الصوت، وهو ما تتخذه اللازمة الموسيقية من مقام الراست مع تحويلة للحجاز في الناي، ولا نعرف المقاصد اللحنية من استخدام المقامات، لأن الحجاز لا يحدث في الغناء الا كفصيل يستخدمه احد فصائل الكرد. يعود للراست في اللازمة ليبدأ الغناء من نفس المقام "وابتدأ المشوار حتى اخر الغناء جنة ولا نار اه يا خوفي. ثم ينتقل لأحد فصائل الكرد من خلال فاصل موسيقي من مقام آخر، "واتقابلنا والحياة قدام عنينا حلوة..
 
تستمر التنقلات المقامية الى النهاوند "كل حاجة فكرت فيها بلحظة واحدة ردت عليها بنظرة حلوة... لكنه يتحول الى البيات عند "من عينيها" وينتقل الى الصبا ويعود الى النهاوند بنفس درجة الصبا ثم مرة اخرى الى الصبا "ياللي محروم م الحنان".
 
وينتقل الى الكرد الرئيسي "والقمر طلع.." ليعود الى المذهب.. ماذا نفهم من كل تلك التحويلات المقامية، انها اشبه بهندسة ابداعية. لكن اغراضها التعبيرية تفقد ملامحها في الواقع، لأنها محددة بأبعاد صوتية محددة تمنح اللحن شخصية معينة، وهكذا تكون الأغنية اشبه بجناح خافق يتغير ملامحه من مكان الى اخر. وحتى لا يصيب المستمع الملل ظلت الغاية مرسومة في التحولات المقامية والتعدد اللحني لإشباع الجمهور.
 
يستخدم بليغ حمدي مقام الحجاز كار كرد وهو احد فصائل الكرد، ويغني حليم "شوف بقينا فين يا قلبي.... هناك تحويلات بسيطة لكنه يعود الى النهاوند وبنفس لحن الكوبليه الأول "تاني تاني راجعين انا وانت تاني للنار والعذاب.." كما لو يؤكد تلازم الحب بالعذاب، وهو ذلك الحب الذي افتتنت به اغاني حليم، وكان وجه المحبوب صورة في خيوط دخان. حب موعود بالجروح والآلام، حتى وإن قالت بعض اغانيه الحب بطعم الفرح، فالمحبوب دائماً في اغانيه ارتبط بحيز غير بصري بل برؤى حالمة.
 
 

التعليقات