عن المشكل الإيراني
الخميس, 01 مارس, 2018 - 10:12 صباحاً

مع حمام الدم المنسكب في سوريا والعراق واليمن، ومع التداعيات المرتدة لهذا الدم في بلدان أخرى، يبدو أننا يجب أن نبحث عن مقاربات أخرى لمعرفة طبيعة ودواعي الصراع، حيث لا يمكن لمن يرقب حركة تاريخ هذه المنطقة أن يظل مقيداً بالنظرة التقليدية المكرورة في تفسير صراعاتها الداخلية، وهي النظرة الاستشراقية التي تقوم على أساس أن الصراع هو ضرب من محاولات الأقلية المضطهَدة في أن تدافع عن نفسها في وجه أكثرية مضطهِدة.
 
هذه النظرة لم تعد تفي بالغرض عند التعرض لمحاولات جادة لتفسير ما يجري في المشرق العربي، خاصة وقد تسلحت الأقلية بغطاء دولي في صراعها المرير مع الأكثرية المحيطة، هذا الغطاء الذي لم يُمنح للأقلية مجاناً، ولكنه أعطي لها من أجل إطالة الصراع بهدف استنزاف الأكثرية، والتأسيس لحروب انتقامية مستقبلية، ولشغل المسلمين والعرب تحديداً بتلك الصراعات عن مواجهة استحقاقات أخرى.
 
ينبغي في تقديري أن يعاد تعريف الصراع على اعتبار أنه صراع بين أقلية مدعومة دولياً لأغراض كولونيالية في نفوس الداعمين، وأكثرية مستنزفة مادياً وروحياً وفكرياً، ومشيطنة بشكل مستمر لاستمرار استهدافها. وعلى ذلك يمكننا القول إن أهم محرك للصراع اليوم هو محاولات الأقلية في أن تلعب دور الأكثرية، أو محاولات الأقلية في أن تتحول إلى أكثرية، وليس بالضرورة أن تتحول تلك الأقلية إلى أكثرية عددية أو كمية، ولكن أن تكون الأقلية أكثرية نوعية أو كيفية، بما يُمَكِّنها من التحكم في أدوات السلطة والثروة، بشكل يجعلها تلعب دور الأكثرية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وبصورة تُمكّنها- حسبما يصدر عنها من أدبيات- من أن تعيد صياغة تاريخ المنطقة حسب رؤاها التي لا تخلو من جنوح أيديولوجي طوباوي بعيد المنال.
 
وعند الحديث عن مصطلحي «الأقلية» و»الأكثرية»، فإن الذهن ينبغي ألا ينصرف لهذين المصطلحين في بُعدهما الديني وحسب، ولكن يجب أن يفهم أن هذين المصطلحين يتضمنان أبعاداً سياسية واجتماعية وقومية، لا يعدو البعد الديني إزاءها أن يكون مجرد ثيمة من ثيمات متعددة تعطي هذين المصطلحين آفاقهما الدلالية المكتملة. وهنا يمكن أن نلحظ نزوع الأقلية القومي، وطموحها الامبراطوري الملتبس بالعباءة الدينية في تضمين الدستور الإيراني مادة أساسية عن «تصدير الثورة الإسلامية» إلى كل العالم. وعند قراءة هذه المادة، ستمثل أمامنا حقيقة عارية، وهي أننا لم نعد أمام أقلية دينية تحاول الدفاع عن نفسها (حسب الرواية التقليدية)، ولكننا إزاء «أحلام قومية» تحاول أن تخرج خارج إطار حدودها السياسية والدينية والجغرافية، متسلحة بخيال أيديولوجي خصب، وتقدم تكنولوجي نسبي، لفتح العالم، (أو العالم العربي على الأقل)، وإخضاعه لحكم «الولي الفقيه» الذي يعد نائب «الإمام الغائب»، حسب النظرية التي أعاد إنتاجها الراحل الخميني في سبعينيات القرن الماضي.
 
يمكن- إذن- أن نفهم جانباً من المشكل الإيراني في ضوء الحديث عن حركة التاريخ، باعتبارها موجات من الصراع والصراع المضاد، ذلك الصراع الذي يأخذ طابعاً دينياً أيديولوجياً، بينما هو في حقيقته صراع مادي على المكاسب السياسية والاقتصادية، يتغلف بالطابع الديني الأيديولوجي لأغراض التبرير والتسويق والتحشيد للمعركة. وهنا تتبدى نباهة الإنسان في خداع نفسه، بافتعال مبررات أخلاقية لصراعاته التاريخية لإرضاء شهوة المال ونزوة السلطة وشهوات ونزوات أخرى مرتبطة بهما، أو لنقل- باستعارة بعض المصطلحات النظرية في تفسير التاريخ- إن الإنسان يسعى من أجل تحقيق «الأنساق الدنيا» (السياسية والاقتصادية) متذرعاً ومتدرعاً في الوقت نفسه بدعاية «الأنساق العليا» (الأفكار والأيديولوجيات)، وهو ما يجعل الصراعات السياسية والاقتصادية تتلفع بعباءات دينية وقيمية جذابة.
 
وبالعودة إلى المشكل الإيراني هنا يمكن القول إن «الأنساق الدنيا» لطهران، تمثل جوهر الصراع الدائر حالياً في المشرق العربي، مهما تلفعت طهران بعباءة «الأنساق العليا»، المتجلية في دعاوى تصدير «قيم الثورة الإسلامية»، التي لا تعني سوى تصدير النسخة الإيرانية من التشيع، التي تختصر «التشيع الديني» في «التشيع السياسي»، وهي نسخة ممتزجة بلون قومي فارسي مؤطر في «ولاية الفقيه»، وهو الأمر الذي يعارضه كثير من مراجع الشيعة في إيران وخارجها. وهنا يبدو أن جزءاً من المشكل الإيراني يتمثل في»الاستحضار المؤدلج» للتاريخ، ذلك التاريخ الذي عندما يحضر ممتزجاً بالأيديولوجيا في الزمن الحاضر، فإنه لا يعني أكثر من حضور الصراعات الدين- أيديولوجية، التي لا تلبث أن تنفجر في شكل صراعات مسلحة تُعمِل أثرها في أسس الأيديولوجيات التي فجرتها، في دورة من الصيرورة الجدلية التي تعكس طبيعة الصراعات في المنطقة والعالم.
 
مشكلة إيران المزمنة التي تشكل «غُبناً تاريخياً» ضاغطاً على الوجدان الإيراني، في تجلياته الفارسية، تكمن في أن إيران دولة تمثل أقلية إسلامية بالمعنى الديني، وتمثل جزيرة محاطة ببحر من الأغلبية بالمعنى الديموغرافي، الذي ترى فيه إيران عائقاً أمام طموحاتها في تحقيق أحلامها الإمبراطورية، الملتبسة بأوهام طوباوية قادت المنطقة إلى حمامات الدم المتفجرة في غير ما بلد عربي. وعلى الرغم من أن مبدأ تصدير الثورة في الدستور الإيراني لا ينص على بقعة جغرافية محدد لتصدير هذه الثورة إليه، إلا أن الملحوظ أن الاهتمام الأكبر في تصديرها ينصب على المنطقة العربية، وهذا يعكس «خضة الوجدان» الفارسي إزاء «الفتوحات الإسلامية» التي يعتبرها الكثير من القوميين الفرس «غزواً عربياً» لبلادهم، ظل يضغط على شعورهم القومي للانتقام بين الفترة والأخرى على طول تاريخ المنطقة في ما بعد الإسلام. ثم إن الاهتمام الإيراني بالمنطقة العربية يأتي لكون العرب إجمالاً يمثلون المقابل القومي والمذهبي للكينونة الإيرانية في قوميتها الفارسية، الأمر الذي يثير لدى الإيرانيين حساسيات الماضي بكل نزاعاته القومية الملتبسة بعباءة طائفية. ثم إن المنطقة العربية تضم الديار المقدسة الإسلامية التي يرى راسم الطموح الامبراطوري في طهران أنها يجب ألا تكون في يد دولة عربية، ومن هنا يمكن فهم محاولات إيران المتلاحقة لجعل «الأماكن المقدسة الإسلامية في مكة والمدينة تحت إشراف هيئة إسلامية مشتركة، وإعطاء مكة – تحديداً- وضعاً أشبه ما يكون بوضع الفاتيكان في العالم المسيحي، تمهيداً لـ»تطهيرها» من سيطرة أعداء «أهل البيت» المفترضين، الذين هم- في الواقع- الخصوم السياسيون لإيران نفسها.
 
وبالمجمل فإن أحد الأسباب المهمة للصراعات المتفجرة في البلدان الإسلامية يمكن أن يختصر- كما سبق- في محاولات الأقلية في أن تكون أكثرية، أو لنقل محاولات الطائفة في أن تتحول إلى أمة، أو أن تلعب دورها، في ظل غياب الأمة عن لعب هذا الدور، أو محاولات الخريطة ذات الحدود الجغرافية في أن تتحول إلى تاريخ يتعالى على الخرائط والحدود، أو محاولات «القومية الفارسية» في أن تكون هي «التشيع الديني»، أو بتعبير آخر محاولات «ولاية الفقيه» في أن تكون هي الإسلام، حيث ما عداها يعد ضلالاً مبيناً وخروجاً على الإمام المهدي وعلى النبي وعلى تعاليم الله، حسبما يصرح الحوزويون المرتبطون بنظام «ولاية الفقيه» في طهران. وبالمجمل فإن ما يجري اليوم من صراعات في المشرق العربي هو إحدى محاولات إيران المتكررة عبر التاريخ في أن تكون هي العالم الإسلامي، أو أن تقوده على أقل التقديرات.

*عن القدس العربي 

التعليقات