الغفوة التاريخية
الاربعاء, 11 أبريل, 2018 - 02:25 صباحاً

خلال اليومين الماضيين، وأثناء بحث عابر في الإنترنت عثرت على كتاب إسمه "دور القبائل اليمنية في الدفاع عن أهل البيت في القرن الأول الهجري".

بدا العنوان ملفتا، بعد تحميله اتضح أن من ألفه شخص إيراني إسمه اصغر منتظر القائم، وصدر عن المجمع العالمي لأهل البيت في إيران.

المفاجأة الأولى أن من نقل الكتاب من الفارسية إلى العربية واحدة إسمها نجاة العماد.

وإحدى المقدمات التي تضمنها الكتاب كتبها عصام علي يحي العماد، وقال فيها أنه قضى نحو ربع قرن يعمل في مجال التدريس في مدينة قم التي يصفها بالمقدسة.

أما المفاجأة الثانية فتتمثل بحجم المغالطات التي ساقها المؤلف وهو يستعرض التأريخ اليمني، ويعيد تقييم اليمنيين وفقا لمحبتهم لـ آل البيت، منطلقا بدرجة أساسية من الكتب التاريخية التي ألفها علماء الشيعة، وباتت تمثل نظرتهم الخاصة في تفسير التأريخ وسرد رواياته، وهي كتب كثيرة ومعروفة.

أما كتب التأريخ التي ألفها علماء السنة فقد أخذ منها ما يطابق قناعته، وهي تلك التي تذهب لإظهار محبة أهل البيت وفق الاحاديث النبوية، وعمد إلى ترك بقية الروايات الصحيحة التي نقلوها وأجمعوا عليها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه ذهب للتشكيك والتجريح في كثير من المؤرخين السنة والكتب التي ألفوها، كالطبري.

يقدم الكتاب تفسيرا من وجهة نظر خاصة لدور القبائل اليمنية، بما يشبه الترويج في الأساس للفكر الشيعي، وإظهار أن مختلف القبائل اليمنية هي شيعية ومناصرة للشيعة والإمام علي، وهي قطيع تابع تحركها العاطفة الفطرية لمناصر آل البيت.

ويتجاهل كثير من الحقائق التاريخية المتعلقة بطريقة حكم الأئمة للقبائل، والنهج الذي اتبعوه في تعاملهم مع اليمنيين عبر قرون عديدة، وحركات التحرر المختلفة التي وقفت في وجوههم، سواء تلك المنظمة او الفردية.

يحتاج الكتاب لقراءة نقدية دقيقة، وتثبت أكثر من المراجع والمعلومات التي رواها المؤلف واستند إليها.

لكن تبدو حقيقة واضحة يمكن استنتاجها، وتتعلق بالجهد الذي تبذله إيران في التأصيل للفكر الشيعي، والترويج له، باعتبارها هي الراعي الأول للشيعة حول العالم، مقابل التقاعس الذي يظهر به خصومها.

كما يظهر اهتمام الشيعة في اليمن بالانحياز لتاريخهم، والحفاظ عليه من الاندثار، مقابل اهتمام ضئيل من اليمنيين في إبراز تأريخ بلادهم النضالي، وإظهار النتائج والتداعيات التي خلفها حكم الأئمة في القرون الماضية، وهذه المعادلة المختلة ساهمت بشكل كبير
في وصول الجميع إلى هذا الوضع الذي نعيشه اليوم.

فهناك حالة بتر واضحة في مسيرة حركة التأليف بين الأجداد اليمنيين الذين تصدوا للحكم الإمامي واعتبروه لا يمت بصلة لتأريخ اليمنيين، وبين الأجيال الجديدة التي لم تكن بنفس المستوى الذي ظهر به من يصفون أنفسهم بآل البيت، مع استثناء بسيط في بعض الأعمال التي قدمت خلال الخمسة عقود الماضية، وانتهى بها الأمر للركود وعدم الإهتمام، وحتى لا نبخس الناس أشيائهم، فهناك طليعة جديدة من المؤلفين والمؤرخين الذين يجتهدون في وصل هذا الانقطاع، لكن الإهمال هو الأجر الذي يتقاضونه اليوم.

هي ليست دعوة لرفع راية الصراع بين هذا الطرف وذاك، ولكنها عمليا تجسد خللا قائما، تسببت به العديد من العوامل، ولعل أبرزها الطريقة التي أدار بها صالح حكم اليمن، فقد اختار لنفسه الحكم وحافظ على بقائه في السلطة، ولم يعر مثل هذه الجوانب أي اهتمام، ما دام الأمر لن يؤدي إلى حرمانه من السلطة وفقدانه لها، وبالتالي تراجع الإهتمام الرسمي ذو البعد الوطني، وغطى الفراغ الطرف الآخر، الذي وجد بيئة جديدة يتحرك فيها بكل هدوء وسلاسة.

الأمر الثاني هو عدم إعارة النخب لهذا الموضوع أي اهتمام ايضا، وأدت خمسة عقود متتالية من عمر الجمهورية إلى برود تام في مجال الإهتمام بالتاريخ اليمني وكتابته، وجعله حيا، ومنع دخوله في سبات وغيبوبة طويلة.

وربما لعب وجود الأسر المنتمية لـآل البيت في النظام السياسي الجمهوري منذ ثورة سبتمبر دورا كبيرا أيضا في إعاقة أي أعمال وليدة من شأنها إعادة الحياة والاعتبار للتأريخ اليمني الحقيقي، وأتذكر هنا أن أحد المؤلفين أصدر كتابات يتحدث فيه عن الهاشمية ودور آل البيت في اليمن، واضطر لنشر الكتاب بإسم وهمي.

وثمة عامل آخر يحتاج لمزيد من التحري وضبط الشواهد، وهي التجربة السياسية التي عاشتها البلاد، وقد أثرت هذه على انقسام الكتلة اليمنية التي كان من المفترض أن يكون لها دور إيجابي، وانشغل المتنافسون بحصاد المكاسب السياسية، والحقد السياسي، فيما تفرغ الطرف الآخر للملمة صفه من جديد، بل إن التجربة السياسية مثلت عامل إنقاذ لكتلة آل البيت، وكان حزب المؤتمر الشعبي العام هو الخشبة التي استندوا إليها، وعملوا تحت ظلالها، وساهم الانقسام بين حزبي الاصلاح والمؤتمر والذي كان يمثل كتلة واحدة في الثمانينات، وخرج بوثيقة الميثاق الوطني إلى استفراد تلك الكتلة بحزب المؤتمر، والعمل من خلاله، ويتضح هذا من مسيرة الحزبين، إذ كانت علاقتهما تسوء كلما ذهبا نحو المستقبل، واستفاد الطرف الثاني منها بشكل كبير، ويتحمل كلا الحزبين المسؤولية التاريخية.

واتصالا بتأثير العملية السياسية، فقد ظلت بقية الأحزاب تعمل لتمكين نفسها أيضا، ولم يخلو سعيها من المماحكات والانحياز والمساهمة في هذه الغفوة التاريخية، ولذلك طغى الصراع السياسي على بقية الأولويات الأخرى، وفي المحصلة لم تفلح الأحزاب في تقديم تجربة ديمقراطية حقيقية، ولم تحافظ بنفس الوقت على الهوية الوطنية الجامعة، ونضال المدرسة الوطنية الممتد لقرون في وجه الأئمة.

وفي مجمل الحال فقد ركن الكثير من اليمنيين لمسألة أن عودة الإمامة والحضور والتحرك المذهبي من جديد في اليمن بات مستحيلا، وأن الثورة الأم التي قامت في البلاد قد قضت إلى غير رجعة على مثل هذا التفكير والفكر، لكن ما يجري اليوم يؤكد حقيقة الاتصال التاريخي بالنسبة لآل البيت قديما وحديثا، فجغرافيا الصراع اليوم في اليمن، وأدواته وشعاراته، هي نفسها جغرافية الصراع الذي عاشته اليمن في القرون الماضية، مع اختلاف الوجوه ومفردات الشعار ومبرراته.

والحديث هنا ليس له علاقة بالحرب القائمة، التي اتخذت المسحة المذهبية، و استدعت التدخل الخارجي، فالفوارق المذهبية قائمة وموجودة بالنسبة لليمنيين، ولكن هناك من أحياها الآن بنزعتها المتطرفة داخليا، وهناك من جعلها ذريعة أيضا للتدخل خارجيا.

والجوهر الحقيقي للصراع في اليمن اليوم سواء في بعده الطائفي المذهبي أو السياسي العسكري، بدأ بمسببات وعوامل داخلية بحتة، وجدت من يرعاها ويمولها ويشعلها، سواء داخليا أو خارجيا، مع فارق أن أحد هذه الأطراف وهو الحوثي -باعتباره يحمل راية الأئمة- كان مستعدا أكثر لهذه الحرب من زمن طويل.

وهنا لا ننسى أن صعود الأئمة عبر التأريخ في اليمن يشهد ظهورا أكثر كلما ضعفت الدولة، وتزايدت الحروب، وبيئة الحرب هي فترة الخصوبة بالنسبة لهم، إذ يرتبط بها الكثير من الطقوس التي يمارسونها ترجمة لنظريات الفكر الذي يحملونه، ومن خلال رفع رايتها يتسنى لهم التحشيد والتحرك واصطناع البطولات والإجهاز على الخصوم.

وحتى اليوم نكون أمام حقيقة تأريخية قائمة، وهي أن كل الأجيال اليمنية لم تسلم من هذا الإنبعاث الإمامي، والفكر المذهبي، وشهوة التسلط والاصطفاء التي يحملها أنصار هذا الإتجاه.

ما الذي نحتاجه اليوم؟ وإلى أين نمضي؟

هذه أسئلة تحتاج لقراءة أوسع وأعمق، واليمنيين اليوم نخبة حاكمة، و سياسيين ومثقفين، وعسكريين معنيين بالإجابة.
 

التعليقات