عبدالوهاب العمراني

عبدالوهاب العمراني

كاتب يمني سفير في وزارة الخارجية اليمنية

كل الكتابات
الدبلوماسية كأداة لاستعادة الدولة اليمنية
السبت, 26 مايو, 2018 - 07:21 مساءً

لطالما انتقدت السياسة الخارجية لليمن منذ عقود وتحديداً بعد إعلان الوحدة ، من خلال سلسلة مقالات في صحيفة "القدس العربي" اللندنية انحصرت جُلها في نقد واضح لإخفاق السياسة الخارجية من حيث الشكل والمضمون بمعنى من حيث أدواتها بتعيين عناصر غير مؤهلة وبالنتيجة دبلوماسية مترهلة وغير فاعلة لأن قيادة الدولة تعتبر الدبلوماسي مجرد أداة تطوع للسلطة بالرؤية التي تؤمن بها وقد كانت رؤية متخبطة متناقضة عشوائية تدار بمزاجية وكان لما يسمى مكتب رئاسة الجمهورية دور أساسي في اختيار السفراء وكذا في رسم سياسة الدولة التي اثبت الأيام فشلها وأسّردتُ في تلك المقالات نماذج وأمثلة واضحة لا مجال لسرد تفاصيلها ، وكان ذلك قبل الربيع العربي والدولة العميقة في أوج جبروتها.

وتحمل كاتب هذه السطور تبعات ذلك بإقصاء وتهميش من قيادة الخارجية التي جثمت على موظفيها لسنوات طويلة قبل ان تهل رياح الربيع العربي لتعصف بالدولة العميقة في اليمن.

من خلال طرحي الإعلامي ككاتب ودبلوماسي عٌرف عنه النقد الدائم لإخفاق سياستنا الخارجية إلا إنني في هذه ألتناوله قد خرقت العادة فكتاباتي دوماً لا تحبذ تنميق الكلام لكن واجبي ورؤيتي الوطنية في استعادة الدولة وقناعتي بأني بداهة لستُ مضطراً لتعريف المعُرف ، وفي المقابل فأن من نتكلم عنه اليوم ليس بحاجة للكتابة عنه !

كانت متلازمة الإخفاق هي سمة سياسة اليمن الخارجية سوى في الدائرة الإقليمية بعلاقته مع دول الجوار او محيطه العربي وهو الأمر نفسه في مجمل سياسته تجاه المجتمع الدولي حيث نمطت اليمن من وجهة نظر دولية بأنها بؤرة للإرهاب ولاسيما اثر تداعيات أحداث 11 سبتمبر في أمريكا لاعتقاد القيادة اليمنية بأنها ستحظى بدعم للنظام واختزلت المساعدات الأمريكية لليمن في الجانب الأمني والفتات لأجل التنمية.

عُرفت السياسة الخارجية اليمنية لنحو عقدين من الزمن بالتمحور حول الارتهان للإقليم وتتلخص بكون اليمن سدا لمقارعة الإرهاب والقاعدة نيابة عن دول الخليج ولم تفطن القيادة اليمنية خلال كل تلك الفترة بعلاقة ندية مع دول الجوار ، بل التماهي حيناً والانصهار في رؤية الخليج من جهة ومفاجئة بموقف الضد في منعطفات حساسة كما جرى التعامل والتعاطي في أزمة غزو الكويت فخسرنا دول الخليج والعراق وإيران على المدى الاستراتيجي البعيد الأمد وتم ترحيل أكثر من نصف مليون من دول الخليج لكننا كسبنا زمناً أضافياً لبقاء تلك القيادة لتكمل الثلث قرن ليتراكم الفساد وتتراجع السياسة الخارجية كفعل ومبادرة وتنحصر في سلوك شكلي استعراضي "ديماغوجي" من خلال مبادرات يمنية لإصلاح الجامعة العربية او  القضية الفلسطينية او حتى حشد المجتمع اليمني للنهوض بالتنمية اليمنية وإخفاق مؤتمر لندن للمانحين في العام 2006 م وما بعده ليختزل كل الدعم الدولي في مفردة دعم مكافحة الإرهاب مجسداً رؤية الإقليم والعالم لليمن من زراية أمنية وليس تنموية وهذا هو لب الإخفاق باختصار.

وبعيداً عن التأويلات التي تداعت فور قرار تعيين الوزير الجديد سوى من إعلام الداخل للانقلابيين أو إعلام التحالف فأن المعنى الأساسي هو اليمن وسلطته الشرعية التي ترمى لأهداف بعضها لا ينبغي ان يوضح إعلامياً فلكل مرحلة من مراحل الأزمة التي نمر بها أدواتها وأساليبها وبالنتيجة أدواتها !

بالطبع أول ما يتبادر لذهن المراقب والراصد على حد سوى  للشأن اليمني يختزل رؤيته لتغيير قيادة الدبلوماسية اليمنية في احتمالية تحول في إستراتيجية التفاوض المفترض باعتبار الزمان والمرفق الرفيع يقتضيان ذلك والحال انه ليس هذا فحسب فأمام الوزير الجديد جملة تحديات منها ترهل السلك الدبلوماسي الذي يعتبر امتداد للدولة العميقة وحقوق عشرات الدبلوماسيين الذين يحملون خبرة وكفائه لم يستفاد منها في خضم عدم استقرار كل مرافق الدولة غدا اغتصاب السلطة في أواخر العام 2014م
وبداهة فأن من ضمن والوليات الوزير الجديد هو تنشيط الدبلوماسية اليمنية وبعثات الجمهورية اليمنية في كل العام ومقولة رفد الدبلوماسية بدماء جديدة فأن الكوادر موجودة أصلاً وأغلبها تقبع في الداخل مضطرة تحت سيطرة الحوثيين وهي عناصر بعضها لاشك كوادر مؤهلة إلى جانب استحقاقاتها القانونية ، وهي بالعشرات بإمكان الكثير منها ان  تتعاطى مع طبيعة المرحلة بعد ان تعطى الفرصة وهي بداهة متمكنة بابتكار أساليب دبلوماسية للتواصل مع منظمات دولية وهيئات حقوقية وكذا وسائل الإعلام بكل أنواعها بغية تغيير رؤية الخارج لليمن وفضح أساليب ميلشيا الانقلاب في الداخل.

رؤية وزير الخارجية اليماني للمفاوضات صارمة لا يحيد عنها قيد أنملة فيقول في أول تصريح له «ما زال الحديث يدور حول الأفكار التي تحدثنا عنها في الكويت  إذ أنجزنا جزءا مهما من اتفاق شامل رفضه الطرف الانقلابي في اللحظات الأخيرة وهرب من طاولة المفاوضات ورفض التوقيع على الاتفاق. واليوم يعودون ليطرحوا الترتيبات السياسية كي تسبق الترتيبات الأمنية والعسكرية، ومعلوم أن الانقضاض على الدولة في يناير  2015 جرى بفعل تغليب «السياسي» على «الأمني».

معلوما بان ما سمى باتفاق السلم والشراكة الذي فرض تحت أسنة الرماح غداة سقوط صنعاء كان له بنود أمنية عسكرية وأخرى سياسية فلم ينفذ الحوثيين سوى الجانب السياسي ولم ينفذوا الجانب العسكري الأمني بتسليم الأسلحة ، وهو الخطاء الذي سمحت لهم القيادة السياسية بالانخراط في الحوار الوطني وهم مسلحون ومجرد ميلشيا.

بينما اليوم بعد ان تمكنوا يطالبون بتغليب الجانب السياسي على العسكري وهذا الخطأ بعينه ومن هنا فبداهة تجريب المجرب ضرباً من الحماقة .

في علم السياسة ومفردة الدبلوماسية هناك مدرستان لتعيين السفراء وكذا ترؤس قيادة الدبلوماسية وهي :
المدرسة "السياسة" كأن تعين قيادة الدولة سفراء لشخصيات تعتقد أنها وطنية وذات نفوذ من وزراء سابقين كمكافئة لولائهم للنظام وفي الغالب يكونوا من المقربين وهذا معمول به في عدد من الدول النامية والعربية تحديداً ، أو من قيادات حزبية ونحو ذلك وهذا سائد في كثير من البلدان وكان منها اليمن خلال الفترة السابقة بغض النظر عن بعض التفاصيل.

وهناك المدرسة " الفنية" التخصصية التي تحرص على اختيار السفراء من صلب مؤسسة وزارة الخارجية ومن السلك الدبلوماسي نفسه سوا كسفراء او قيادة الوزارة ولاسيما على مستوى تعيين (وزير)، وهذا معمول به في كثير من البلدان فمصر رشحت وزير خارجية أكثر من مرة سفيرها في نيويورك ليتولى الخارجية المصرية منهم عمر موسى على سبيل المثال ، وسوريا عينت وليد المعلم سفيرها السابق في الأمم المتحدة والأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها.

من فوائد تداعيات الربيع العربي هو بداية توجه في 2014 م باستلهام قيادة المرحلة الانتقالية بتعيين وزراء خارجية من صلب مؤسسة الدبلوماسية واختيار وزيرين تقلدا منصب مندوب اليمن في الأمم المتحدة خلال ذلك العام ولكن ونتيجة للظروف المفصلية التي عانى منها اليمن في ذلك العام وسقوط صنعاء قد أجهض تلك المحاولة فأنتجت الحرب وزير للخارجية طبيب مسالك بولية تماما كما كانت الدبلوماسية اليمنية خلال أربعة عشر عاما تدار من قبل طبيب في المختبرات .

مؤخرا أفرزت الحرب مرحلة جديدة تخفق من جهة وتصيب من جهة أخرى ، ووفق مقولة " أعطى الخُبز لخبازه" فأن قرار تعيين السفير خالد اليماني مندوب اليمن الدائم في الأمم المتحدة ليتولى منصب وزير الخارجية يأتي في هذا السياق التفاؤلي فالرجل ليس فقط متمكن وذو خبرة في محافل دولية وتجربته في أكثر من بعثة سابقة ولا لثقافته وإجادته أكثر من لغة أجنبية بل ولرؤيته الوطنية الذي كان آخر محك وامتحان هو كيفية التعامل مع قضية سقطرى وقبلها القرار ألأممي 2216 الذي يعتبر سقف لأي تفاوض مفترض مع مغتصب السلطة وأحد المراجع المهمة التي غدت كقاعدة لانطلاق الشرعية لشرح قضية اليمن في المحافل الدولية ليكتمل بذلك مسوغات تفاؤل الكثيرون لنجاحه المؤمل ، لمن يقرأ ما وراء السطور لخلفية قرار تعيين وزير الخارجية وفق مسوغات خلفية القيادة الجديدة للخارجية التي تحظى إلى جانب تراكم الخبرة  برؤية وطنية فاحصة وعلى خلفية إفرازات ما بعد سقوط صنعاء وهذه الحرب الطويلة سيدرك أهمية دور الدبلوماسية اليمنية في المرحلة القادمة التي تضاهي دور البندقية.

وسيجزم أن شهادتي قد لا تكون بالضرورة مجروحة لانتمائي للدبلوماسية لثلاثة عقود مضت وبأني احد أبناء السلك الدبلوماسي ، لكنها في كل الأحوال تبقى وجهة نظر قابلة للنقد تارة والتأويل تارة أخرى.

اختم مقالتي بأخر تصريح لمعالي وزير الخارجية خالد اليماني الصحفية :

"الخارجية اليمنية ظُلِمتْ في هذه الأزمة والحرب. كانت الوزارة تملك القدرات الطيبة، وأتمنى أن نسترجع هذه القدرات، ونعيد هذا الاحترام للدبلوماسية ومؤسساتها، حتى نكون رديفا للعسكري في معركتنا لاستعادة الشرعية والانتصار على العصابات الباغية".

*  كاتب وسفير في الخارجية اليمنية

التعليقات