يمنية من أديس أبابا
الإثنين, 12 نوفمبر, 2018 - 07:01 مساءً

أديس أبابا، ياناير 2017 - أديس أبابا تعني "الزهرة الجديدة" باللغة الأمهرية وهي عاصمة إثيوبيا ويطلق عليها أيضاً عاصمة أفريقيا نظراً لأهميتها التاريخية والاقتصادية. جسدت الزهرة الجديدة فرصة جديدة وحياة جديدة في كونها المهرب لملايين من اليمنيين واليمنيات على مر العقود الماضية وحتى اليوم. تاريخ اليمن الدموي الحافل بالحروب والمجاعات جعل أديس أبابا مقصد اليمنيين واليمنيات - والعكس صحيح.
 
كانوا أجدادي من ضمن تلك القوافل الهاربة. لي جد من محافظة إب الخضراء والثاني من صنعاء القديمة. احتوت أديس أبابا أجدادي في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي بعد أن فروا من جحيم المجاعة والصراعات بحثاً عن الاستقرار وحياة أفضل - ذلك وفقاً لحكايات والدايّ، فأنا لم يحالفني الحظ في لقاء جدايّ الذان توفيّا قبل ولادتي. بعد الهروب، وجد أجدادي مقصدهم بل وحتى "اندمجوا" في المجتمع الإثيوبي وكونوا عوائل وأطفال من زوجات إثيوبيات ولمع نجم جدي من الأب في سماء التجارة المحلية. كان كل شي "ماشي زي الفل" إلى أن اضطرب الوضع السياسي والأمني في إثيوبيا.
 
تفجر الموقف في أديس أبابا في العام 1974 وتم خلع الملك الإثيوبي هايله سـِلاسي وتم إنشاء حكومة مؤقتة شنت حرب على كل من اعترضها، فأكلت الحرب الأخضر واليابس ودخلت البلاد في دوامة عنف ومجاعة فتكت بأرواح حوالي مليون ونصف إثيوبي إلى أن استقر الوضع في تسعينات القرن الماضي. في بداية الثمانينات فهم أجدادي خطورة الموقف، فرجعوا إلى الموطن الأم (اليمن) مع عوائلهم تاركين خلفهم حياة وتجارة بنوها في الثلاثين عام الماضية في أديس أبابا. بين طيات تلك التجارب ساهم أجدادي في أن يكونوا جزء من المكون الاجتماعي اليمني المعروف بفئة "المولدين" أولاً في أثيوبيا ثم في اليمن. والمولد في اليمن وأثيوبيا هو الذي ينحدر من جنسيتين أو عرقين سواء بشكل رئيسي في صلة القرابة من الأب أو الأم أو بشكل غير رئيسي في العائلة أو في محل الإقامة. وهكذا من خلال زيجاتهم بأثيوبيات وأطفالهم الأثيوبيون- اليمنيون اصبحوا أجدادي أولاً مولدين خلال عملية اندماجهم في أثيوبيا وثانياً في جلب أطفال مولدين. وهنا شاء القدر أن يكون والدايّ من فئة المولدين. وهكذا تورطتُ أنا بأحلى توريطة.
 
فأصبحت مولدة لوالدين مولدين من أديس أبابا.
 
اذاً ما الذي يحدث إذا ماكنت مولد يمني-أثيوبي أو أثيوبي-يمني، ونشأت في صنعاء؟ كيف أفسر وأنا طفلة لمجتمعي الصنعاني أني يمنية من أديس؟ كيف أفسر لماذا أتحدث الأمهرية مع ان لغتي الأم هي العربية؟ كيف أفسر أني نطقت اللغتين معاً لأول مرة أنطق فيها وأنا طفلة ولكني لأعرف كتابة أو قراءة اللغة الأمهارية؟ كيف أفسر أن شعري المجعد (أو المفتول) هو نتاج جينات "عربية" و"أفريقية"؟ كيف أفسر أني لست نصف هوية من هنا واخرى من هناك وإنما أتحلى بهوية مزدوجة؟ كيف وكيف وكيف ..؟ وأسئلة كثيرة أخرى. كأي طفلة، لاشك من أنه لم يكن لدي أي إجابة بل كنت مشغولة في التخبط وسط أزمة الهوية هذه والصدام المستمر مع التمييز العنصري. نعم، عنصري. هناك فرق كبير بين المولد في اليمن من أصل "أبيض" أمريكي أو أوروبي أو أن تكون مولد من أصل "أسود" أفريقي. كما هو الحال في أغلب دول العالم حيثُ أن هذا التمييز هو من إفرازات النظام العنصري العالمي على مدى التاريخ تجاه ذوي البشرة السوداء.
 
لم تكن تجربة سهلة أن تكون مولد في صنعاء. لم يكن سهل أبداً إيجاد الأجوبة. عموماً، من ذا الذي لا يعاني من أزمة هوية أو التمييز بشكل من بين الأشكال المختلفة؟ إستوعبت ذلك جيداً بعد إقامتي في السويد واختلاطي مع جاليات عديدة من جنسيات مختلفة وإدراكِ لواقع العنصرية في السويد وكيف أن هذه الجاليات في مواجهة مستمرة مع العنصرية وأزمة الهوية.
 
أتذكر جيداً اللحظة التي تصالحت فيها مع أزمة هويتي. مع بداية الحرب في اليمن كتبتُ لأول مرة عن أصولي الأثيوبية. غمرني وضوح عجيب في الرؤية عند إدراكِ مدى تأثير الحرب على الهوية اليمنية. كتبت وفهمت وأنا أكتب عن التنوع الثقافي والعرقي التي كانت تتمتع بها اليمن وكيف أن الحرب اليوم تعيد صياغة هذا التنوع العرقي والمناطقي. كتابة ذك المقال تجربة شعرت فيها بالتحرر من قيود تربيت عليها في صنعاء، فرضت عليّ أن أخفي حقيقة أني يمنية من أديس أبابا في فترة الطفولة والمراهقة.
 
بعد التحرر أتت مرحلة المتعة. في نهاية العام الماضي، كانت لي زيارة إلى إثيوبيا بعد ثمان سنوات انقطاع عن هذه البلاد الساحرة، حيثُ لديّ مجموعة لابأس بها من الأهل من جهة الجدات الأثيوبيات. الصور هنا هي لمحة فقط من تفاصيل الحياة في أديس أبابا الساحرة. سأنشر في المستقبل صور لمدن إثيوبية أخرى التقطتها أثناء رحلتي.
 
أثيوبيا واليمن، المختلفات المتشابهات. رغم أن البلدين في قارتين مختلفتين لكن بسبب القرب الجغرافي (وربما بسبب الأساطير التي تخبرنا أن اليمن وأثيوبيا كانتا جزء من مملكة سبأ) أو بسبب التاريخ الحافل بالثورات والنزاعات في كلا البلدين، أجد أمور كثيرة متشابهة بين ثقافتي البلدين. البساطة في التعامل، جلسات شرب القهوة، الروابط الأسرية المتينة، جلسات القات (وما أدراك بحلاوة القات الهرري)، البهارات الحارة في الطعام، الكرم، ضيافة القريب والغريب، المشاعر الفياضة، وللأسف، الفقر.
 
الاقتصاد الأثيوبي يتعثر يوماً بعد يوم، والمسافة بين طبقة الفقراء والأغنياء في إتساع سريع وكبير مفزع. لن أضجركم بأرقام وإحصائيات تقارير البنك الدولي عن نسبة البطالة والفقر في إثيوبيا ولكن ممكن أن أقول أن، مع العلم أن الحرب انتهت منذ أكثر من ثلاثين عام، فإن الغني اليوم في غنى فاحش والفقير في فقر مدقع لا يتخيله المرء. وبالرغم من هذا، أديس أبابا هي وجهة لجوء للعديد من اليمنيين واليمنيات، وبشكل أكبر بعد اندلاع الحرب المشئومة، ومنهم أقربائي.
 
وعليه، ذهبت لأديس حتى ألتقي بالأهل ممن شردتهم الحرب، والأصدقاء، وحتى أجدد مهاراتي في التحدث باللغة الأمهرية، والتمتع بأوجه الشبه بين ثقافتي البلدين - والتمعن في الإختلاف بين الثقافتين. أجد ثقافة التسامح والتعايش في أديس أبابا بين العديد من الأطياف الدينية والطائفية والعرقية أمر تتفوق به المدينة عن صنعاء. بالرغم من هذا، وجدت نفسي في موقف غريب، كأني أصبر نفسي بأثيوبيا حتى يحين موعد لقاء اليمن. على أمل أن يعم السلام في أرض اليمن قريباً
 

التعليقات