لا حدود للفشل في اليمن
الإثنين, 17 ديسمبر, 2018 - 09:16 صباحاً

باتت مفردة اليمن تكافئ كلمة الفشل، وما تجسده من معان ودلالات لا حصر لها ترتبط بالفوضى والعبث والمرض والموت، فضلا عن الحالة "الإكزوتيكية" الغرائبية في البلد الأفقر في العالم العربي، والذي يشهد صراعات داخلية سياسية وهوياتية، وأزمات اقتصادية، وانحيازات قبائلية ومناطقية، واستقطابات جهوية وأيديولوجية. واكتملت دائرة الفشل عقب التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية؛ بذريعة تخليص البلاد من "الإرهاب" المجسد بالحوثيين وأنصار الله، باعتبارهم مجرد أذرع ومليشيات تتبع إيران، وتنظيمات القاعدة وأنصار الشريعة و"الدولة الإسلامية"، وأحيانا جماعة الإخوان المسلمين والتجمع اليمني للإصلاح. وإذا كان اليمن قد دخل نادي الدول الفاشلة منذ عقود، فإن الفشل أصبح لا حدود له منذ تدخل التحالف العربي الذي تقوده السعودية.
 
 
بدأت الأزمة اليمنية كنزاع داخلي، سرعان ما تحول إلى نزاع دولي وإقليمي. فمنذ سيطرة جماعة أنصار الله الحوثية على صنعاء في 21 أيلول/ سبتمبر 2014، تحولت أسس المعركة في اليمن إلى حرب وكالة، وانحرفت النزاعات الجيوبوليتيكية إلى مسارات هوياتية مذهبية في إطار الحرب الطائفية الإقليمية الباردة بين السعودية وإيران. فما حدث في اليمن من سيطرة جماعة "أنصار الله" الحوثية على مؤسسات الدولة؛ كان إشارة لانهيار بنية الدولة اليمنية المركزية، ويلخص النتائج الكارثية لقطع مسار الثورات السلمية في العالم العربي تحت ذريعة "حرب الإرهاب". فالثورة اليمنية السلمية التي خرجت في 11 شباط/ فبراير 2011 كانت بهدف التخلص من منظومة الحكم السياسية والاقتصادية والاجتماعية البائسة التي قادت البلاد إلى حافة الهاوية، ثم أدخلتها في حدود الفشل التام عبر المبادرة الخليجية في 3 نيسان/ أبريل 2011 المدعومة أمميا، والتي أفضت إلى استيلاء جماعة أنصار الله الحوثية، المدعومة من إيران على البلاد، وما تبعه من تدخل تحالف عربي بقيادة السعودية والإمارات في 26 آذار/ مارس 2015 باسم "عاصفة الحزم.
 
عقب مرور أكثر من ثلاث سنوات على معارك التحالف العربي ضد الحوثيين لم يتحقق أي تقدم في الأهداف المرسومة، لا بإزاحة الحوثيين ولا بالقضاء على القاعدة. وشهد اليمن انهيارا كاملا في قطاع الأمن، وكارثة في بقية القطاعات، ودخل في حلقة مفرغة من العنف. وباتت إعادة بناء دول مركزية فعّالة وهويّات وطنية متماسكة تتطلب معجزة لإيجاد عقد اجتماعي جديد؛ عبر اتفاق يعتمد على حلّ الانقسامات السياسية والتصدّعات الاجتماعية العميقة التي أدّت إلى الحرب الأهلية والتدخلات الإقليمية والدولية.
 
 
كان من المفترض أن يكون تدخل التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات سريعا وحاسما، حسب محرر موقع "لوفير" والأستاذ في مدرسة الخدمات الأجنبية في جامعة جورج تاون والباحث في معهد بروكينغز، دانيال بيمان. لكن "التقدم توقف، وحاولت القوات المدعومة من السعوديين والإماراتيين التحرك نحو المناطق القريبة من تلك التي يسيطر عليها الحوثيون، وبدا النصر السريع مثل بقية الآمال السعودية في اليمن: وَهْمَا. فبعد أكثر من ثلاثة أعوام، شنت السعودية خلالها أكثر من 100 ألف طلعة، وأنفقت المليارات على الجهود الحربية في الشهر، وأدت الغارات الجوية إلى تدمير معظم اليمن، وقتلت آلاف المدنيين.. رغم هذا كله، صمد الحوثيون، وفي الوقت ذاته غيّرت الفصائل ولاءاتها، وغيّر صالح معطفه، ووافق في عام 2017 على العمل مع السعوديين، لكن قتله الحوثيون قبل أن تتحقق مكاسب من هذا التغيير".
 
 
أسفرت الحرب في اليمن عن نتائج كارثية دون تحقيق تقدم يذكر، وتعالت أصوات دولية ومنظمات حقوقية لوقف الحرب الكارثية والعبثية في اليمن، لكن قدوم ترامب صب الزيت على النار، فيقول مقال نشرته صحيفة "الغارديان" في حزيران/ يونيو الماضي، بعنوان: "كيف يجعل ترامب الحرب في اليمن كارثية؟"، للصحفي محمد بازي: "إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يزيد الدور الأمريكي في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن بصمت، ولا يأبه للخسائر الإنسانية الضخمة، والأصوات الصادرة من الكونجرس، التي تحاول منع تدخل البنتاغون". ويذكر الكاتب أنه "في الفترة الأخيرة من إدارة أوباما، ساد قلق بين المسؤولين الأمريكيين، بأن الدعم الأمريكي للسعودية، خاصة المعلومات الاستخباراتية وتحديد الأهداف، بالإضافة إلى إمداد الطائرات بالوقود في الجو.. قد يجعل الولايات المتحدة شريكة في الحرب بموجب القانون الدولي، وهذا يعني أنه يمكن لواشنطن أن تُتهم بارتكاب جرائم حرب، وأن أفرادا أمريكيين قد يتعرضون للمحاكمة الدولية. وفي 2015، عندما تنامى عدد القتلى من المدنيين اليمنيين، قام المسؤولون بحوار داخلي لأشهر حول الاستمرار في إمداد السعودية بالأسلحة".
 
في هذا السياق، لم يكن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي سوى تنبيها لما يحدث في اليمن، ذلك أن الانتقادات ضد الحرب في اليمن كانت تتنامى، والشكوك حول جدوى وأهمية الحرب وأهدافها كانت تتصاعد، حيث نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا للصحفية ميغان سبيشيا في حزيران/ يونيو الماضي، تقول فيه إنه عندما اشتعلت الحرب في اليمن قبل أكثر من ثلاث سنوات، فإنها حطمت بلدا كان هو الأفقر على مستوى العالم العربي، وأوصلته في المحصلة ليكون أسوأ كارثة إنسانية على الأرض. وتورد الكاتبة نقلا عن تقرير الأمم المتحدة، قولها بأن كلا من التحالف الذي تقوده السعودية والحوثيين قاموا بأفعال قد ترقى إلى جرائم حرب، واتُهم الجانبان بتعمد استهداف عشرات المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية، بالإضافة إلى التجمعات المدنية. ويفيد التقرير بأنه حتى قبل آخر هجوم، كان ملايين اليمنيين يعيشون على شفير المجاعة، حيث يقدر أن 60 في المئة من الشعب، الذي يبلغ تعداده 29.3 مليون، يصنفون بأنهم يفتقدون للأمن الغذائي، بحسب برنامج الغذاء العالمي. ويفيد الكاتب محمد بازي، من "الغارديان"، بأن الحرب تسببت بمقتل حوالي 10 آلاف يمني، وتركت حوالي 22 مليون يمني آخرين (حوالي ثلاثة أرباع عدد سكان اليمن) بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، مشيرا إلى أن هناك ما لا يقل عن 8 ملايين يمني على شفير المجاعة، بالإضافة إلى أن هناك حوالي مليون مصاب بالكوليرا.
 
 
أكدت معركة مدينة الحديدة، التي أعلن عنها في 13 حزيران/ يونيو الماضي، على كارثية الحرب وعبثيتها. فالمعركة التي كان من المفترض أن تشكل منعرجا في مسار موازين القوى لصالح التحالف السعودي الاماراتي؛ تمخضت عن وهم أشد ومخاطر أكبر، الأمر الذي دفع باتجاه البحث عن حلول أخرى أفضت إلى حدثين بارزين مرتبطين باليمن؛ وقعا في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر، ويحمل كلاهما تداعيات على المرحلة المقبلة من الحرب، حسب دانا سترول، وهي زميلة أقدم في "برنامج جيدلد للسياسة العربية" في معهد واشنطن. أما الحدث الأول، فتحت رعاية مبعوث الأمم المتحدة الخاص لليمن، اجتمع الطرفان المتناحران في استوكهولم، واتفقا على وقف إطلاق النار في مدينة الحديدة المرفئية، التي تعتبر نقطة النفاذ الحيوية للمساعدات الإنسانية والواردات التجارية. والحدث الثاني، فقد أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون "S.J. Res. 54"، وهو قرار مشترك (مع مجلس النواب) يسعى إلى وقف الدعم العسكري الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.
 
 
لا جدال في أن صور الموت والمرض والدمار في اليمن دفعت إلى البحث عن حل سياسي، لكن المؤكد أن تحول المزاج العام ينبع من الفشل في تحقيق أهداف الحرب التي أدت إلى نقيض مقاصدها المتعلقة بذرائع الحرب على الإرهاب المسند من إيران وتنظيم القاعدة. فبحسب صحيفة "الغارديان" في تقرير بعنوان "إيران أغرقت الإمارات والسعودية بحرب اليمن"، في حزيران/ يونيو الماضي، جاء فيه: "قد يتساوى حكام الرياض وحكام أبو ظبي في مقتهم لطهران، إلا أن الميدان الذي بات مزدحما وغاية في التعقيد يكشف عن تباين وتناقض مصالحهما، ولا أدل على ذلك من أن القوات المدعومة إماراتيا كانت قبل شهور قليلة تقاتل وتقتل قوات مدعومة سعوديا داخل عدن. في هذه الأثناء، يتجه الجنوب نحو الاستقلال الذاتي. ولكن من يجرؤ من بين المسؤولين السعوديين والإماراتيين على إخبار قادتهم ورؤسائهم بأن إيران قد أغرقتهم في مستنقع حرب مكلفة ولا نهائية؛ دون أن تتكبد هي سوى القليل من التكاليف؟ ولذلك، يشكل تخندق اقتصاد الحرب عقبة أخرى كؤودا في طريق تحقيق السلام. وبناء عليه تستمر الحرب، وتتعاظم المعاناة، وتفقد المنطقة المزيد من استقرارها، ويتولد الإحباط والغضب ضد الغرب ويفقد الناس كل ثقة بحديثه عن حقوق الإنسان والقانون الدولي. فيما لو بدا في الماضي ممكنا إنكار التواطؤ، فإنه لم يعد بعد التطورات الأخيرة خافيا على أحد.
 
 
إذا كانت إيران قد استفادت من الحرب في اليمن بترسيخ وجدودها عبر الحوثيين وذراعهم أنصار الله بأقل التكاليف واستنزفت خصومها، فإن تنظيم القاعدة وذراعه أنصار الشريعة، فضلا عن تنظيم "الدولة الإسلامية"، جذّر من وجوده وفرصه المستقبلية مع حدود الفشل والفوضى. فحسب جوناثان فنتون-هارفي، في مقال بعنوان "مستقبل القاعدة في اليمن الذي تمزّقه الحرب"، نشره مركز كارنيغي في 25 أيلول/ سبتمبر الماضي، فإن تركيز التحالف الذي تقوده السعودية على طرد الحوثيين منحَ تنظيم القاعدة حيّزاً أكبر لإعادة التنظّم في اليمن.
 
 
فعلى الرغم من الحملة التي يشنّها التحالف الذي تقوده السعودية، بدعمٍ أمريكي، على تنظيم القاعدة في جزيرة العرب منذ أواخر العام 2016، والتي أدّت إلى انسحاب التنظيم من المكلا، إلا أنه لا يزال يحتفظ بموطئ قدم في اليمن، لا سيما بفضل تركيز التحالف على الحوثيين في شكل أساسي، واستعداده لاستخدام تنظيم القاعدة في جزيرة العرب حليفاً ضدّهم. أضف إلى ذلك أن المزاعم الإماراتية عن حملة ناجحة ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب؛ مضلِّلة على الأرجح، نظراً إلى أن المسؤولين الإماراتيين زعموا زوراً، في آب/أغسطس 2018، أنه لم يتبقَ في اليمن سوى مئتي مقاتل تابعين لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، بينما تشير التقديرات إلى أن التنظيم كان في العام 2010 يضم بضع مئات العناصر فقط، بيد أن أعدادهم سجّلت ارتفاعاً كبيراً لتبلغ أربعة آلاف عنصر بحلول العام 2017، وبين ستة آلاف وسبعة آلاف بحلول العام 2018، وهي أرقام تتطابق مع تقديرات الأمم المتحدة في تقريرها الأخير في آب/ أغسطس الماضي.
 
 
لم يقتصر الأمر على تنامي تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في اليمن، فقد أشار تحقيق استقصائي أجرته وكالة "أسوشييتد برس" في آب/ أغسطس 2018، إلى أنه بدلاً من إلحاق الهزيمة بمقاتلي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، عمد البعض في التحالف الذي تقوده السعودية إلى إبرام صفقات مع التنظيم، "فدفعوا أموالاً للمقاتلين كي يغادروا المدن والبلدات الأساسية، وسمحوا لآخرين بالانسحاب مع أسلحتهم ومعدّاتهم ورزمٍ من الأموال المنهوبة". حتى في المكلا، حصل مقاتلو تنظيم القاعدة في جزيرة العرب على ملاذ آمن، وكل ما في الأمر أنهم انتقلوا للتمركز في مكان آخر، في حين أن هذه الضغوط أرغمت التنظيم على التراجع أكثر نحو الداخل في محافظات حضرموت والبيضاء وأبين، إلا أنه لا يزال يتمتع بحرية العمل والتحرك، ما يؤشّر إلى أن التحالف غير مصمّم على القضاء على هؤلاء المقاتلين، بينما يركّز في شكل أساسي على طرد الحوثيين.
 
 
على الرغم من نفي التحالف العربي لتقرير "أسوشييتد برس"، فقد أظهر أحد التحقيقات الذي أُجرِيَ حول الأسلحة المستخدمة في حرب اليمن أمثلةً عديدة للأسلحة المستوردة من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، من بين جهات أخرى، والتي ينتهي بها المطاف في أيدي المليشيات، وضمنها تلك المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وأوضح تقرير لصحيفة "الغارديان" البريطانية، أنه في انتهاكٍ واضح للاتفاقات التجارية من قبل التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات، فإنَّ الأسلحة المستخدمة في حرب اليمن منها العربات المدرَّعة المُتطوِّرة، وقاذفات الصواريخ، والقنابل اليدوية، والبنادق.. هي من بين الأسلحة التي تُشتَرى من الشركات الأوروبية والأمريكية، وتصل إلى الفصائل والجماعات المحلية.
 
 
ثمة قناعة واسعة بتنامي القاعدة في اليمن بفعل الحرب، فحسب مايكل هورتون، كبير المحللين للشؤون العربية في مؤسسة جيمس تاون، فإن الحرب على تنظيم القاعدة في اليمن فاشلة. ففي مقال نشر في آذار/ مارس 2018 بعنوان "حرب الإمارات على قاعدة اليمن معركة دون نجاح ونفذتها مليشيا محلية"، تتبع الباحث خيوط استراتيجية التنظيم ونجاحها، وفشل الاستراتيجية المقابلة، الأمر الذي سبق أن أكده تقرير لمجموعة الأزمات الدولية في 2 شباط/ فبراير 2017 بعنوان "القاعدة في اليمن: توسيع القاعدة" الذي خلص إلى القول: "لقد بات الفرع اليمني لتنظيم القاعدة أقوى من أي وقت مضى. مع تصاعد الحرب الأهلية في البلاد وتحولها إلى حرب إقليمية، فإن الفرع المحلي للتنظيم (القاعدة في شبه الجزيرة العربية)، يزدهر في بيئة من انهيار الدولة، وتنامي الطائفية، والتحالفات المتقلبة، والفراغ الأمني ونشوء اقتصاد الحرب. ويمكن القول إن القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والفرع الناشئ لتنظيم "الدولة الإسلامية" الذي ظهر لاحقاً وعلى نطاق أضيق، كانا الرابح الأكبر من إخفاق عملية الانتقال السياسي والحرب الأهلية التي تلتها. تكيفت القاعدة في شبه الجزيرة العربية مع المشهد السياسي المتغير، وتحولت إلى حركة مسلحة قادرة على السيطرة على الأراضي وتحدي سلطة الدولة".
 
 
خلاصة القول، أن التحول تجاه وقف الحرب في اليمن لا يرتكز إلى صحوة ضمير عالمي أمريكي أوروبي بسبب الأزمة الإنسانية وعمليات القتل والدمار والخراب، فالتقدم الطفيف الذي تشهده اليمن في سياسة المتحاربين جاء تبعا للنزعة البراغماتية وليس الإنسانية. فقد باتت القناعة راسخة بأن مسارات الحرب تمضي من فشل محدود إلى فشل بلا حدود، حيث أسفرت الحرب عن نقيض أهدافها ومقاصدها، فيما باتت إيران هي من يستنزف التحالف السعودي الإماراتي المسند أمريكيا وأوروبيا، وأصبحت جماعة أنصار الله الحوثية أشد صلابة وأكثر نفوذا، وبات تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة وجماعة أنصار الشريعة أوسع انتشارا وأخطر وجودا وأكثر تجذرا.

* عن عربي21

التعليقات