بليغ حمدي
الإثنين, 31 يوليو, 2017 - 12:07 مساءً

لست ناقدا موسيقيا وكثير من التفاصيل الموسيقية لا أعيها، اقصد المضامين الموسيقية. تمثل معظم آراءي ذائقتي بدرجة رئيسية، لكن بعض التذوق يحتاج تعلمه أو ممارسته والاعتياد عليه.

وبالنسبة لمعرفتي المتواضعة بالموسيقى، يمكنني القول أن بعض الأعمال الكبيرة في تقديرنا، هو ما املته علينا ذائقة الأجيال الماضية. وما تم ترسيخه كشيء جيد أو رائع، ليس بالضرورة استحق ذلك، بل لأنه انتقل كبعض المسلمات من جيل إلى آخر. ربما تكون نفس المسلمة التي جعلت بليغ حمدي ملحنا كبيرا، وهو باعتقادي، أحد أكثر السقطات الفنية التي حظيت بالتبجيل في الموسيقى العربية.

1

في الواقع، يمتلك بليغ موهبة فنية لا يمكن انكارها، لكنها تعرضت لبعزقة، حد التعبير المصري، في سوق الغناء ما جعل كثير مما ابدعته فنا مترديا. 

وبسبب نجاح ظاهرة بليغ، صارت ايقونته مرتبطة بتقدير الماضي، أو ما اعتدنا تسميته "الزمن الجميل".

وبليغ حمدي اول ملحن يفرض نفسه كموضة موسيقية، استمرت أكثر من عقدين، بل ان فنانة مثل شيرين ستقول ذات مرة وقد أصبحت واحدة من أشهر مغنيات الساحة العربية، بأنها تتمنى أن تكون بمثابة خدامة عنده، تقدم له الشاي. 

يحظى كثير من الفنانين الكبار، بتلك المغالاة من التقدير، حد انكار الذات، لكن بليغ أيقونته الفنية صنعها النجاح الجماهيري أكثر من معيار جودتها.

لقد تتابعت الموضات الموسيقية، ففي التسعينيات كان الجميع يذهب لصلاح الشرنوبي، وقبلها ذهب الجميع لبليغ حمدي، اما بمباركة صوته أو الفوز بلحن منه، لكن هذا المبدأ القائم على العرض والطلب جعل ضريبة النجاح أن تكون مهذارا في سوق الغناء.

يمكن للبعض القول أن أغانيه مازالت تحظى بشعبية كبيرة، ليس كل ما يحفظه الفولكلور هو الافضل، بل ما اتفقت عليه ذائقة جمعية. وغالبا ما يحفظ الجمهور الالحان البسيطة، بينما الالحان المركبة والاكثر تعقيدا وجودة ستكون عرضة للنسيان. ولا يعني ذلك أن تعقيد الفن يجعله أكثر فنية. لكن لولا اكتشاف التدوين الموسيقي، فكل ما كان سيبقى من موسيقى موزارت وبيتهوفن؛ غالبا اعمالهما الأقل جودة. اي ان رباعيات بيتهوفن الخمس الاخيرة، وسوناتته المصنفة 111 ستكون عرضة للنسيان.

لعل واحدة من أسباب طغيان ظاهرة بليغ؛ انه اول ملحن جماهيري حظي بالاعتراف من جيل العمالقة. أنه أحد ملحني عبدالحليم حافظ، ثم رافقت ألحانه اخر سنوات السيدة أم كلثوم. اي ان شعبويته أتت بمباركة كبار الفنانين.
2

يعتقد البعض أن كل ما غنته أم كلثوم، يجب أن يكون تحفة فنية، أو على الأقل من الروائع. لكن أم كلثوم غنت الحانا مهذارة، بينها معظم ما لحنه عبدالوهاب وبليغ حمدي، اي أكثر أغانيها الأخيرة رواجاً وشعبية، مثل انت عمري وامل حياتي من الحان عبدالوهاب، وفات الميعاد والحب كله لبليغ حمدي.

وفي اللحظة التي صار فيها بليغ موضة الشارع، كان استمراره يدين لقناعة ترسخت بأنه أحد جيل العمالقة. بل ان الملحن الكبير رياض السنباطي يصر، لموقف متشدد إزاء اغاني الخمسينات والستينات، بأن بليغ في مستوى ملحنين أكثر إبداعا مثل الطويل والموجي، لأنهم بنظره جميعهم صغار. وربما تعزز مفهوم أن الكبير فنيا هو المتقادم زمنيا، وهذا عامل كبح انطلاق الابداع وحصرها في مسلمات رهينة الماضي.

و بليغ التصق ايضا بمرحلة حظيت بالتبجيل، باعتبارها مرحلة قلما اخطأت، مع أن كثير من البدع الرديئة في الوعي أتت منها.

وانا لا اناقش ظاهرة بليغ حمدي أو ألحانه باعتبارها خطايا ذلك العصر فقط، بل باعتبارها الخطيئة التي مازالت تتسم بالقدسية. 
تحول بليغ الى ظاهرة سوقية في الاغنية العربية، مع تحول واضح في الحانه؛ ذلك المزيج من الالحان الشعبية والأنماط الحديثة. الاستلهام من ينبوع الفولكلور المصري، طغيانها في اغاني مثل التوبة وعلى حسب وداد، أو عدوية واخريات.

اي ان شخصية بليغ الفنية المميزة استعارها من الفولكلور. وإذا عدنا لأغانيه الاولى مثل تخونوه، وخسارة، سنرى شخصيته تستعير من شخصيات لحنية راسخة لأبناء جيله، وسابقيه، وهذا ليس عيبا في البداية، إضافة لاسلوبه القائم على جمل لحنية قصيرة ونغماته الأكثر تسارعا. ثم تلك الموجة التي سادت الاغنية الطويلة عبر مقدمات موسيقية طويلة تفتقد للوحدة، اي باعتبارها الحان متفرقة، واستعراضات في تنقل مقامي بين لحن واخر.

3

هناك قصة، فبليغ التحق بالكونسيرفتوار، لتطوير تحصيله العلمي في الموسيقى. وفي المحاضرات الاولى تحدث المدرس عن الخمسة القوميين في الموسيقا الروسية، وكيف أنهم نهلوا من الموروث القومي الروسي ووظفوها في الحان بقوالب هارمونية وتراكيب موسيقية متطورة.

بعد فترة قصيرة انسحب من دروس الكونسيرفتوار، وراح ينقب في الفولكلور المصري، لقد ساهم وجود مكتبة شعبية جمعت فيها موسيقى الفولكلور والموروث الغنائي المصري من مهمته.

ومع نهاية الستينيات أعلن بليغ عن ظاهرته الموسيقية الجديدة، التي هي استعارة الفولكلور ضمن رؤية أكثر حداثة. وتدفقت ألحانه بهذا المزيج الشعبي، وربما منحه هذا الاستلهام سهولة في الحصول على نغمات جديدة، جعله متسرعا وغزيرا دون توقف حتى تشابهت ألحانه وتكررت بصورة واضحة، حد انه كان يعيد إنتاج نفسه. الا انه كان ايضا كان هذا الجمهور غريب الاطوار والذي صار أكثر تطلبا للتكرار.

تدخلت عوامل سياسية واقتصادية غيرت قيم التذوق. وكان عصر ما بعد نكسة 67، انكسار الآمال الكبيرة، وكان ايضا مرحلة كفر بالنخبوية. وظاهرة بليغ صنعتها الحان جاهزة مع مضمون الموهبة الشخصية للفنان نفسه.
لاحقت بليغ سمعته كملحن حظي باعتراف ام كلثوم، وهكذا صارت ألحانه الشعبوية، وبعضها رغم فجاجتها الشعبية بايقاعية راقصة، سمة لذائقة النخب.

4

هكذا أصبح بليغ حمدي بوابة النجاح لأغنية. حينها ظهر الاورج، كالة موسيقية رئيسية في فرق العزف، وكانت الالحان تتدفق في نبض كهربائي سامج، بل صارت مع الجيتار الكهربائي (وهو آلة أكثر قبولا من الاورج) تلعب دور إيقاعي غرضه البهرجة. وكان الشارلستون، والتسريحات القصيرة للفتيات، وفي الغرب ظهرت تقليعة الديسكو. وبليغ الذي لم يتوقف عن التلحين، الكل يأتي إليه من أجل حيازة النجاح. ألحانه ايضا ظلت تتكرر وتتشابه، مع هذا ظلت تحقق النجاح، لأنه ايضا امل مصر في الموسيقى. كانت توصية مهمة أطلقها عبدالحليم حافظ في تقديم واحدة من الحان بليغ. وكان ينبغي على بليغ أن يكون ذلك الامل، لان عبدالحليم فرض نفسه كواحد من عمالقة الغناء. قليلون جدا من سينكرون تلك الوصايا التي كرستها النخب الفنية، وكانت على ألحانه الشعبوية أن تلتصق ايضا بالحس النخبوي. 

و بليغ ساوت ألحانه بين ابن البواب وابنة الذوات، وفي ذلك اغراء رومانتيكي، لكنه يتضمن سقوط في الذائقة. ولا يعني ما اقوله، أن كل أبناء الطبقة البسيطة لا تتذوق الفن الراقي أو العكس. لكن هناك سمات تسود ذائقة مجتمع واخر، انها العادات الثقافية أو العاطفية، وبينما يعبر الشعبوي عن مشاعره بانفلات، تشترط النخبوية لجم الانفعال، وقواعد في التعامل. وهذا التحول الموسيقي نتاج تحول نخبوي أو طبقي ضمن شروط الثورة، لكنها تظهر بشكل فاضح مع انتكاستها.

مع هذا، لدى بليغ كثير من الالحان الجميلة، أو بدقة اكثر، ستجد في كثير من أغانيه بعض الالحان الرائعة. أو بتعبير عبدالوهاب ستجد ماسات على صفيح. مع هذا، لا يمكن إنكار أن ظاهرته صنعتها موهبة كبيرة، لولا أنها أفرطت في التسيب، ولم تعط إبداعها التقدير والاحترام. فكانت الالحان تخرج من الفرن لكنها غالبا ما تنضج عن نفس الطعم. 

5

راحت موهبة بليغ كضحية لتغير في شروط السوق، عوامل الانفتاح المنفلتة دون انضباط أو قواعد، صارت القاهرة مدينة أكثر تضخما، ومع اتساع العشوائيات كاورام سرطانية، كانت المدنية تطغى عليها السمات الأكثر شعبية، وطغت الحان بليغ كخليط من عشوائيات وضجيج الشعبيات المبتذلة بالتظاهر، ومع صعود الفهلوة الملازمة لفرص الانفتاح. 

كان بليغ اغراء الجمهور الاكبر، وفي نفس الوقت ضحيته فنيا؛ لم يقاوم اغراء السوق في عصر الانفتاح المتسيب، لكنه حظي باحتفال الدهماء؛ من المتعلمين والشوارعيين، من البنت العاشقة الى الراقصات في خفايا الليل. الفن لا ثمن له، وعندما أرادت البرجوازية أن تمنحه قيمة مادية، ظهر عصر الانحطاط؛ عصر التدهور الكبير الذي كان بليغ أحد المبشرين فنيا.

التعليقات