الدرس الكتالوني الانفصال والغيبوبة العربية
الاربعاء, 25 أكتوبر, 2017 - 10:45 صباحاً

تقف اليوم أوروبا أمام القيم البشرية التي بشرت بها، بل واحتلت جزءا من العالم لتحضيره بها وإخراجه من دائرة التخلف؟ والتوحش؟.
 
فانتقلت هذه القيم المطلقة من المحلية إلى العالمية. يقف وراءها مجتمع السلاح والبارود وفكرة التمدد، والمصالح، والحق في الاعتداء على الآخر والسيطرة على خيراته. وهذا لا يقتضي كبير تفكير لإدراكه. يكفي أن نتأمل اليوم الحالة الكتالونية لندرك علامات الزلزال المقبل. تواجه إسبانيا هذه المرة، شتاء قاسيا يرتسم في الأفق، لم يسبق أن عاشته بهذه الحدية، من قبل. حالة تمزق وانفصال واضح المعالم، يمكن أن يحدث ذلك عدوى كبيرة في البلاد نفسها مع قضية الباسك مثلا، الذين لا ينتظرون إلا نجاح الانفصال في كتالونيا، ليستعيدوا مبادرة تنشيط فكرة الانفصال، وتحريك الماضي النضالي والانفصالي الذي راكموه وحملوا السلاح من أجله في مواجهة الدولة المركزية. وهذا إذا حدث سيستدعي تدخلا فرنسيا على الأقل بحكم أن جزءا من الباسك ممتد في العمق الفرنسي. هذه الحالة هي واحدة من أعقد الوضعيات التي هزت فكرة الدولة الوطنية في أوروبا، أو فكرة الدولة الأمة l’Etat Nation m في مواجهة امتحان شديد الصعوبة.
 
 أي وجود مختلف الإثنيات والقوميات والديانات على الأرض نفسها وتحت النظام ذاته الذي يضمن التمايز والحق في العيش المضمون، والمحدد في كل هذا، فكرة المواطنة. الانتماء إلى بلاد مثلا هي إسبانيا ولا تهم فيما بعد الاختلافات الدينية واللغوية والقومية. هذا النظام أعطى هدوءا كبيرا لأوروبا القرن التاسع عشر والعشرين برغم التصدع العميق الذي أحدثته الحربان العالميتان. لكن ظل نظام الدولة الأمة هو الأساس لتفادي الصراعات الداخلية الدينية والعرقية وغيرها. هل تعني هذه الرغبات المعلنة في إسبانيا وفي الشمال الإيطالي حاليا والمنطقة مرشحة للمزيد من التفكك، أن الدولة الوطنية أو الدولة الأمة لم تعد قادرة على استيعاب الاختلافات والتوجهات الداخلية. الدرس الأوروبي الذي أعطي لأوروبا الشرقية فيما يخص تشيكوسلوفاكيا سابقا مثلا كان مهما. وانتهى إلى طلاق بالتراضي بين القوميتين الكبيرتين تشيكيا وسلوفاكيا.
 
الأمر في هذه الحالة كان سهلا لأن البلاد كانت في الأصل تعيش حالة الدولتين في دولة واحدة. ووجدت في شخصية الفنان والمسرحي فاكلاف هافيل رجلا صاحب عقل وتفكير وحوار. فرفض الوحدة القسرية بعد أن تبنى الشعب في استشارته القانونية فكرة الانفصال. وهللت أوروبا الغربية الرأسمالية للانتصار الذي أضعف المجموعة الاشتراكية التي كانت تعيش وقتها حالة تحلل انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي أيضا.
 
وجدت أوروبا الغربية لذلك عنوانا شاعريا: ثورة القطيفة la révolution de velours وافترق الأخوان في تشيكوسلوفاكيا سابقا بروح إيجابية، وتفاديا الحرب بين القوميتين اللتين استمرتا في العيش بسلام. على العكس من ذلك، يوغوسلافيا سابقا التي انتهت بتدخل أممي أوروبي، وبرك من الدم والاعتداءات العرقية والاثنية. النموذج السلمي والنموذج الحربي لا يزالان يحكمان أوروبا اليوم. وردة فعل الدولة الإسبانية يمكن أن تقود إلى المزيد من الكراهية وتضاعف الرغبة في الانفصال. مثال الوجع اليوغسلافي مخيف لأنه دموي، والثاني أيضا خطير بانفصاليته. كان الفعل الأيديولوجي والثقافي والإثني والديني حاسما في كلتا الحالتين. ووجد هذا في برنار هنري ليفي السند للتنظير للمسألة القومية التي نظر لها في أماكن كثيرة من الكرة الأرضية حيث يوجد المسلمون والعرب، آخرها المسألة الكردية والانفصال عن العراق الأم في ظل أزمة حادة على كل المستويات التي ستقود العراق الحالي إلى المزيد من التمزقات، من دون أن يخفي انتسابه المعلن لأكبر نظرية عنصرية في التاريخ البشري الحديث: الصهونية. واعتبر معاداة هذا الفكر هو العتبة الأولى لمعاداة السامية.
 
 وتحول إلى منظر لحرب الأموات. جنرال الجيش الميت كما في رواية إسماعيل قدري. حتى ليبيا لم تنج من حضوره حيث حول بن غازي في خطاباته وزيارته إلى معقل للديمقراطية والحرية، انتهى الأمر بتمزق ليبيا في حرب طاحنة، وانتهت بن غازي بيد الحركات الإسلامية المتطرفة. وأصبحت ليبيا منقسمة، ونظر برنار هنري ليفي للتقسيم كفعل ديمقراطي. لكننا لم نسمع صوته في ما يحدث في إسبانيا. هل سيؤيد الانفصال في إسبانيا وغدا في إيطاليا وبعده في ألمانيا وبلجيكا وغيرها؟ هل سيطبق المقاييس ذاتها التي طبقها على كردستان العراق؟ وسوريا ربما؟ وليبيا؟ أم أن فكرة الانفصال فعل ديمقراطي عالمي عربي متهالك، وتخريب للوحدة الأوروبية في أوروبا؟ هذا الفكر الحداثي الذي لا يخفي جانب التناقض فيه القوة والاستعمار والمصالح الاقتصادية، وصل إلى مأزق وعليه أن يجيب عن سؤال الوحدة والتجانس. ويخرج من فكرة الكيل بمكيالين التي لم تعط إلا الخراب لأنها تبرر في النهاية ما لا يبرر.
 
يبدو واضحا أن على أوروبا أن تكون أكثر تعقلا وتعيد النظر في يقينياتها. وتجد السبل الموضوعية لإخماد بركان موجود منذ زمن طويل. لن تكون أوروبا، في ظل الأزمات الاقتصادية الحادة، في منأى عن الحالة الإسبانية. البركان الخامد يخترقها تحتيا كلها.
 
أغلبها كانت بها حركات انفصالية صمتت وخمدت، ولكن ليس إلى الأبد. هذه المرة ستكون حركات مسندة بحركة شعبية واسعة تعيش أزمات اقتصادية وثقافية خطيرة لن تمنعها من الانزلاقات الممكنة، ما سيعقد الأوضاع أكثر سيعقد فاتحا الطريق ليس فقط أمام الانفصالات الخطيرة، ولكن على التطرفات كلها. العالم العربي موجود اليوم داخل هذه الدائرة من دون أن يملك لا تفكيرا ولا حلولا وينتظر من القوى الغربية وأمريكا أن يحلوا محله كليا بدفع ثمن باهظ ليس بالمعنى المادي فقط ولكن أيضا في كياناته أو ما تبقى منها.

التعليقات