أمكنة الكتابة، الحقيقة والتخييل؟
الاربعاء, 10 يناير, 2018 - 11:29 صباحاً

يبدو الأمر شائكا بالنسبة للقارئ العادي الذي تعود على قراءة الأجناس في انفصالها والتعامل مع التاريخ كمادة حقيقية مطلقة، وينسى أنه وراء التاريخ المروي يتخفى منتصر دون هذا التاريخ وفق شهواته ورؤاه. لهذا فأمكنة التخييل رهينة فعل الأدبية التي تخترق النص التاريخي منجزة قراءتها الخاصة عن التاريخ، التي ليست تاريخا بديلا، لكن مسائلا. يفرض موضوع أمكنة التخييل الروائي سيطرة كلية على موضوعة مبهمة ينِشأ في سياقها الفعل النقدي الذي يتوخى الاقتراب من هذه الإشكالية. المكان، ليس حالة ثابتة في المكان والزمان، ولكنه فعل متحرك في المكان والزمان.
 
أريد أن أكتب عن قصر أو عن مساحة تاريخية، يحتاج الأمر في هذا أن أكون قريبا من التاريخ أولا، لا لإعادة إنتاج التاريخ. ليس من مهام الكاتب أن يكون مؤرخا ليكتب رواية تاريخية أو على تماس معها. فالأمر ليس مهما من هذ الناحية على الأقل.
 
إعادة الإنتاج هي تثبيت شيء موجود في الأصل. لهذا تظل علاقة المكان بالتاريخ سطحية، القصد من ورائها براغماتية معرفية فقط، أي معرفة تاريخ المكان للسيطرة بجدية على موضوعة الكتابة لا أكثر، وهي مرحلة مهمة بل وضرورية، إذ لا ننشئ نصا من الفراغ. هو المادة الأولية الخام للكتابة الأدبية عموما، والروائية بالخصوص. يظل المهم في هذا السياق، العمل خارج فعل الاستعادة وخارج فعل السيطرة باتجاه المنجز الإبداعي.
 
أي العمل على الفعل التخييلي، حيث يجيب الكاتب في سياق الفعل الإبداعي، كيف كان قريبا من التاريخ، وكيف كان بعيدا عنه أيضا. كيف جعل من المادة التاريخية، مساحة جديدة للتخييل التي ستغير ليس فقط الطوبوغرفيا الجغرافية للأمكنة لحظة المنجز الفني، ولكن روح المكان أيضا الذي سيخرج عن سياق أن يكون مجرد موضوعة تاريخية محكومة بشرطية الحقيقية.
 
الحقيقة الإبداعية شيء آخر، فهي أولا نسبية، أي لا وجود لها عمليا إلا في السياق النصي الذي يتحكم فيها جوهريا، وإلا ما سميت الرواية رواية، ولكن تاريخا. وفي هذه الحالة علينا أن نجيب عن فكرة الأمكنة الذهنية التي سكنت بعض الروايات حتى أصبحت حقيقة موضوعية، مع أنه لا تاريخ فعلي لها ولا مرجعية، مثل رحلة ابن بطوطة الذي أسس فعله الإبداعي في عمق مدن أثبت التاريخ أنه لا وجود لها مطلقا، جاء بها الكاتب لحجة إبداعية إدهاشية وغرائبية أيضا، أو شيء قريب من هذا.
 
منذ المدينة الفاضلة حتى مدينة أطلنتيد Atlantide الغارقة، ثم في الرواية لاحقا، كانت دائما هذه العلاقة مركزية، الحقيقي والتخييلي. نجد ذلك في محاورتي أفلاطون: تيمي وكريتياس اللتين ألفتا في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث يضع أفلاطون على لسان أستاذه سقراط هذه الفكرة، الذي بعد أن وصف مثالية مدينة أو جزيرة أطلنتيد، طرح سؤاله المعرفي الخطير أمام أتباعه، ويشغلنا حتى اليوم: هل مدينة مثل هذه وجدت حقيقة؟ بمعنى أبسيط أليس ذلك منجزا تخييليا ولو في بعض أجزائه؟ المكان يظهر ويغيب بحسب الموقع والحاجة.
 
أطلنتيد وجدت في محاورات أفلاطون ولكن هي حقيقية؟ أليست جزءا من حاجيات أفلاطون المثالية لإظهار نموذجه للمدينة الفاضلة، وأن البشرية أوجدتها بجهودها ولا شيء مستحل.
 
لم يتوقف الإنسان عن الحلم بمكان آخر، مكان مبدَع غير الذي يعيش فيه. أطلنتيد التي استوعبها روائيا الكاتب بيير بونوا الذي افترض وجودها في عمق الصحراء، في منطقة جبال الأهقار، أخرجها من عمق الصحراء وكأنها على شاكلة مدينة دبي اليوم. وصنع منها عالما مثاليا قبل اندثارها، ولا تهم التفاصيل التاريخية التي ذكرها أفلاطون وافترض فيها أطلنتيد جزيرة مثالية في نظامها، انتهت تحت الماء.
قرية غابرييل غارسيا ماركيز ماكوندو، في مائة عام من العزلة، قرية تخييلية، مكان افتراضي بامتياز، مع أن روح المكان تجوب في كولومبيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسباني. لقد فصل الباحث روبير كلانتون في مؤلفه الكبير والمهم: المدن الخيالية والمنشآت التخييلية في مسألة المكان في الفنون، عندما جعل من المدن الخيالية موضوعة بحثه الأساسية.
 
حقيقة الإبداع التي لا تتحدد قيمتها وصدقيتها إلا داخل النص، لأن الناقد إذا أراد أن يبحث عن المقابلات المكانية في النص الإبداعي، لن يحصل على شيء مهم لأن النص في اللحظة التي يصبح فيها فعلا فنيا منجزا ينتقل من الحقيقة الموضوعية إلى الحقيقة الافتراضية التي تتحدد كقيمة مضافة داخل النص الإبداعي.
 
أمر الأمكنة يمس أيضا الشخصيات التاريخية التي تؤثث هذه الأمكنة. إلى أي مدي يحق للروائي أن يظل ملزما وملتزما بالمادة التاريخية؟ هل يحق له الخروج عنها لجعل الشخصية ابنة العصر الذي يعيشه الروائي؟ ما قيمة فعل روائي يقع في زمن لم يعد يهمنا إلا من باب الذاكرة. قد تكون هناك ثوابت تتعلق ببعض الحقائق التاريخية والصفات الجسمانية للشخصية كحقائق من الصعب تغييرها وفق المشيئة الإبداعية، لكنها في النهاية قليلة الأهمية. الإصرار على قيمته الحاسمة، يحول الروائي، في أحسن الأحوال، إلى كاتب سيَري أو مؤرخ، في المحصلة سيكون العمل فاشلا أدبيا وتاريخيا، لأنه وضع نفسه في مكان ليس له عمليا. للتاريخ مختصوه.

* عن القدس العربي

التعليقات