حرائق الشتات في الطريق إلى سُحماتا
الاربعاء, 24 يناير, 2018 - 10:12 صباحاً

أن ينتقل ناقد كبير بقامة الدكتور إبراهيم السعافين، إلى الرواية، معناه أنه يريد أن يقول شيئًا آخر غير الذي قاله في النقد، لا يستطيع العقل الناظم وحده أن يستوعبه. مخاوفي كانت أن يظل العقل النقدي حاضرا في كل التفاصيل الروائية، الأمر الذي يسرق حتما من الرواية عفويتها، وخطابها، وعنفوان شخصياتها، التي لا يحكمها باستمرار العقل المحض الذي يسكن الناقد، ويرى من خلاله مختلف الظواهر. فقد نجح الدكتور إبراهيم السعافين حيث أخفق الكثير من النقاد الذين تخفوا تحت قبعتين: قبعة الناقد المتمرّس، وقبعة الروائي، ولم يستطيعوا الفصل.
 
وجدتني فجأة أمام شخص آخر. أمام روائي كبير يعرف المزالق الفنية، فتفاداها في مجملها، بحنكة الكاتب، فاتحا الطريق ذاتها، تظهر وتغيب، وأمام شخصيات روائية لتقول ما يشغلها في سياق اسمه النشاط السردي، متساوقة مع الاعتباري وشرطياتها الإنسانية، من دون أن يكبلها بثقل خطاباته هو ككاتب، كما فعل الكثير من النقاد. هناك كان المقتل، لأنهم لم ينفصلوا عن جنس يتقنونه بامتياز (النقد) لكنه ليس كافيا للحماية من الخسارات الروائية.
 
منذ اللحظة البدئية، تضعنا الرواية وجها لوجه، أمام شخصية (عدنان) المقدمة على أسئلة وجودية ثقيلة، محصورة بين ماض انتهى، وحاضر غامض، تُحادث نفسها كما لو أنها تواجه قدرا لا سلطان لها عليه، أو مرايا صماء تسمع ولا تجيب، من شرفات مدينة جبال الدخان Smoky Mountains، كما كان يحلو له أن يسميها، بسبب الضباب الذي يكسو جبالها، في أعالي الطابق السابع عشر، غارقا في القطارات التي تذهب وتجيء محملة بالبضائع، والوجوه التي صنعت ذاكرته، بالخصوص أمه رشا، وصديقه الأمريكي بوب، طالب العلوم السياسية في جامعة جورج تاون، بواشنطن الذي رآه في الحلم وهو يقاوم اختطافه من قوى الشر، وصديقته سلمى التي يستأنس بحضورها. لم تكن الرحلة التي أشرف عليها بوب مع أصدقائه إلا فرصة لتحديد الإطار الذي يعيش فيه عدنان صحبة بوب وصديقته جانيت، وائل البري الصريح جدا، الذي ترك بلاده مجبرا، المؤمن بثنائية القوة والضعف. وزوجته ديبي جونز، أستاذة التأريخ سابقا، وإحسان الصباغ الذي لا يثق في وائل بسبب تهمة أشاعها صديقه رياض بأن وائل يعمل لمصلحة وكالة الاستخبارات. هناك يكتشف عدنان متحف الشيروكي الهندي الأحمر، ويلمس عن قرب قصة شعب أبيد عن آخره لحساب حضارة محت كل تفاصيل جريمتها. من هذه اللحظة تبدأ تفاصيل الرواية في التفرع لنكتشف جزءا مهما من الحياة الطلابية العربية والفلسطينية تحديدا في المنافي.
 
هل الطريق إلى سحماتا رواية مكان ملتبس بالحنين؟ يحكمها الفقدان وضياع العلامات. حنين لا يمكن لمسه، ولكنه مدمر داخليا، وأمكنة متفرقة تفصل بينها المسافات المستحيلة، زئبقية، تؤثثها ذاكرة جريحة، ليست في النهاية إلا لغة هاربة تستعيد حاضرا صعبا، مخيما ينام كل ليلة على أسراره الحزينة. الحنين الملازم للفلسطيني هو الجزء الأكثر حضورا في حياته. يتوالد عبر الأجيال لدرجة أن تتحول المدن الفلسطينية أيضا إلى لغة تتشكل من ورائها تضاريس مدن، وبلدات وقرى افتراضية، حقيقية، لم يروها أبدا في حياتهم، بالخصوص عند بعض الأبناء والأحفاد.
 
ليست رواية الطريق إلى سحماتا بهذا المعنى إلا رواية جيل، سرقت منه أرضه في طفولته، منح كل ما يملك لتظل مستمرة فيه حتى العودة، برغم حالة اليأس المتربص، بين نور يتجلى ويخفت، وشرارات صغيرة تخرج من رماد الهزائم، تُنبئنا بأن هناك شيئا ما لا نراه ولا نفهمه، لكنه موجود، يتجاوز الموت واليأس. ما أعطى للرواية نفسا ملحميا يبدأ منذ القسوة الأولى التي لا يذكرها التأريخ إلا قليلا. ثورة 1936 التي اخترقتها الخيانات والأوهام الكثيرة، لتجعل منها لحظك انكسا، غذت لاحقا النكبة.
 
وكأننا في دوامات البدايات الأبدية le retour éternel بالمفهوم النيتشي. لا خيار. مقدر على الفلسطيني أن يظل متفائلا ويقظا، في عالم يصنعه الآخرون، واليأس والآمال الضعيفة، حتى لا يخسر أرضه، وينتهي نهاية الهنود الحمر التي أربكت عدنان وسلمى وهما يتأملان رخامة متحف قبائل الشيروكي، التي ختمت عليها الاتفاقيات العشر التي سرق بموجبها البيض، أراضي الهنود الحمر.
 
تجاذب لا يتوقف بين حاضر يعاش بصعوبة، وماض لا يتوقف عن النبض. الفالوجة حاضرة وسحماتا جعلت منها الذاكرة الموشومة زمنا ينبض بالحياة. الماضي والحاضر. تتحدد ملامح الفلسطيني القلقة بين ذاكرة الملاجئ والاستئصال من الأرض الأم، ومدارات المنافي الإرادية أو الإجبارية، بين أمريكا وكندا ولبنان، والقاهرة حيث لا مستقر أبدا. ربما هذا ما يعطي معنى للجملة الأولى في الرواية: لِمَ يراودك إحساس دائم بالرحيل؟ داخل هذه العوالم العربية والعالمية والقرى المعلقة في القلب، والمدن البعيدة، تتشابك وتنقطع، وتنشئ الرواية علاقاتها النصية الأكثر تداخلا، وتعيد تركيب حياة الشتات الفلسطيني. الحركة الطلابية التي تناضل من خلال المنظمة الطلابية العربية الفلسطينية وسيلة لمواجهة النكبة المرة ونكبات الهزائم المتتالية التي أفقدت الإنسان العربي، والفلسطيني، أو كادت، ثقته الداخلية. كل الشخصيات الفاعلة في الرواية مصابة بجرح اليأس ولكنها ترفض لا تريده أن يستولي عليها، لأن شخصية مثل سلمى، وحتى روز، وغادة حتى في انكسارها بعد فقدها إحسان، وغيرهن، تمنحن فرصا حقيقة لهذا الأمل الممكن. لكن السؤال القاسي الذي يعذب عدنان بقوة: ماذا جنينا؟ يعيد سؤال جدوى التضحيات إلى الواجهة. جاء الشباب والشابات من كل مكان ليؤدوا واجبهم. فهل كان عبثا ما فعلنا؟ (الرواية 386) برغم تصريح المناضل العنيد بسام ضاهر. قصص الشتات الأمريكي والكندي واللبناني ليست إلا وسائل للبحث يتم فيها تسبيق الحياة على فعل الموت للاستمرار أكثر والمقاومة. في هذا السياق، لم تكن شخصية بوب الأمريكي ثانوية. فقد انتقل من الطرف إلى الطرف النقيض بمساعدة صديقه إحسان الصباغ الذي قاده من عقلية المحرقة الطاغية على كل تفكيره نحو مأساة الشتات الفلسطيني لدرجة الالتحاق بالمقاومة والزواج من صديقته روز وإنجاب بنت تسميها أمها حيفا بعد أن اخطفت مجموعة الكتائب بوب. والثنائيات العشقية: بوب/روز، عدنان/ سلمى (ابنة معاوية)، إحسان/غادة، وغيرها ليست إلا وسيلة للاستمرار خارج نظام اليأس الذي فرضته الصهيونية والإخفاقات المتتالية على الفلسطينيين. بسام ضاهر تجاوز شرطيته المسيحية ويقدم عليها خياراته الوطنية. معاوية ابن سحماتا كان يشتغل أرضه مع داود اليهودي، لم يمنع اختلاف الدين من التعايش. لكن النكبة دمرت كل شيء وكل نسيج القرون، إذ انتهى الأمر بمعاوية إلى النزوح إلى لمخيم الرشيدية والموت فيه فكان فلسطينيا بامتياز كما قال عنه صديقه عدنان لأنه برغم الانكسارات، ظل حالما بالعودة.
 
ليس عدنان إلا الاستعارة الحية لزمن وصل إلى سقف نهاياته. وليس معاوية إلا حالة الحنين التي لا ترحل إلا وهي مشبعة بتأريخها وحلمها الأبدي. وليس بوب الأمريكي المختطف الذي تجاوز شرطية التضليل الصهيوني، وروز التي انتهت إلى مخيم الرشيدية، مع ابنتها حيفا في انتظار بوب الذي قد لا يعود أبدا، إلا ذلك الأمل الإنساني الذي لا يجف أبدا.
 
صدقية الأحداث، ولغتها الهادئة، وواقعيتها الأدبية، تقرب العودة إلى سحماتا من السيرة الذاتية، لكن النص يستعصي على هذا التعريف، لأن الكاتب لم يكن سجينا لحياته. فقد تخطاها نحو متخيل جمعي شمل مأساة الفلسطيني والعربي أيضا، الذي يقف اليوم أمام قدر شديد القسوة. ولا خيار له سوى اعتبار ذلك، لحظة تأريخية عابرة كما الشدائد السابقة كلها.

* عن القدس العربي

التعليقات