فلسطين كرواية: اليد الدافئة ليحيى يخلف
الاربعاء, 27 يونيو, 2018 - 09:37 صباحاً

ظاهرة تستحق التأمل، مسّت بقوة الرواية العربية، والفلسطينية تحديداً، بدأت تخرج عن كونها تجارب شخصية في اتجاه أكثر اتساعاً وشمولية. موضوعة الخيبة التي أصبحت وجعاً كبيراً وتيمة أدبية وثقافية انبنت عليها روايات فلسطينية كثيرة في السنوات الأخيرة. وهي دلالة على حالة القلق le marasme تجاه مستقبل لم يعد يحمل الآمال الواسعة كما كان الأمر في السابق بعد أن اضطرت الاتفاقيات المعقودة مع إسرائيل، أوسلو أو الاتفاقات الثنائية، الفدائي الفلسطيني أن يضع سلاحه في المتحف وتحول المقاومة جذرياً.
 
الروائي يحيى يخلف الذي ارتبطت نصوصه بحياة المخيمات، التي عاشها مهجراً من أرضه، في مجملها، واحد من هذه الأمثلة. واحدة من ميزات كتابته الروائية هي الالتصاق بالأرض بقوة وكتابة تاريخ مواز، تاريخ الأرض من موقع الإبداع والتخييل. لقد أدرك القارئ اليوم أن الرواية ليست بديلاً للتاريخ ولكنها التاريخ نفسه، تاريخ النفوس في صراعها من أجل الحياة والبقاء. تاريخ الأفراد والمجموعات وهي تواجه أقداراً شديدة القسوة بلا استسلام، تاريخ الأرض وهي تتضاءل وتضيق وتجف. كم نحن في حاجة عربياً إلى بلزاك يشبه آلامنا وخيباتنا ليعيد بناء وترميم مجتمع في حال صعوده وانهياره المتتالي، إبداعياً.
 
تبدأ اليد الدافئة من هواجس السن عند الكاتب الإعلامي المعروف أحمد أبو خالد الذي تقاعد قبل الوقت، ليستمر في الحياة. كان يريد أن يفرح ويستمتع ببقية العمر مع زوجته جميلة لكن ذبحة صدرية عاصفة، غير مرتقبة، لم تمنحها أي فرصة حياتية. مما عمّق وحدته، وسرّع إحساسه بالشيخوخة الزاحفة، بنظامها وتكرارها، إلى يوم يحدثه صديقه في النضال والمنافي والإعلام الموحد، الفنان الرسام سمعان الناصري الذي اختار ألمانيا منفاه الجديد بعد الخيبات المتتالية. يحدثه سمعان عن زوجته الخلاسية، صوفي، ذات الأصول الصومالية الإفريقية وتحولاتها في الحياة. في رام الله لم يبقَ من أصدقائه القدامى الذين هاجروا أو ماتوا إلا الطبيب نادر الذي بقي معه يتقاسم برفقته هموم الحياة الفلسطينية. يذهبان إلى المقهى العربي، ويمضيان الوقت في لعب النرد، ويشربان شاي بالقرفة.
 
في ظل هذه الهواجس يفكر في تخطي العزلة بالكتابة. تغريه حياة صديقه الفنان سمعان الناصري بكل ملابساتها الفنية وتناقضاتها. فقد تاه في المنافي وعاد إلى الأرض الأم وهو في حالة انتشاء، لكن سرعان ما يصدمه الواقع اليومي، فيهاجر. يتعرف على صوفي التي تصبح كل شيء في حياته، زوجة وحبيبة ومثالاً فنياً بخلاسيتها. لكنه سرعان ما يهملها فتغادره وتصر على الحياة وتتعلم الرقص الفني قبل أن تفتح نادياً من دون أن تنسى ما جمعها بفلسطين وأرضها الأولى. وعندما تزور فلسطين، تمنع من الدخول إلى مطار اللد، بسبب شكوك السلطات الإسرائيلية في نشاطها.
 
مثلها مثل الناشطة اليابانية هياتارو التي رافقت الجميع في الرحلة إلى المقبرة الرقمية التي وضعتها السلطات الإسرائيلية لدفن الشهداء الفلسطينيين. مقبرة تتلقى يومياً المياه القذرة الآتية من مرتفعات المستوطنة. في هذه اللحظة تصعد الرواية عالياً في تعبيراتها معرية جرائم الاحتلال. تتأثر الناشطة هياتارو بالمشهد ويترسخ انتماؤها إلى القضية الفلسطينية. الشيء نفسه يلمس أعماق الناشطة الفلسطينية نيرمين. لكن الجهد الشبابي لتغيير الأوضاع يسعدهما. فقد غرقوا الأرض التي كانت يباباً في وادي الباذان، ويحولون المجاري النتنة حفاظاً على ذاكرة الشهداء في انتظار دفنهم في مكان يليق بهم. ويبدو واضحا تركيز الكاتب على دور المرأة عالميا في القضية الفلسطينية.
 
فقد مسّ جغرافية الكون كله. تهمها القضية الفلسطينية، من صوفي إلى نيرمين، إلى هياتارو، التي جاءت برفقة أخي نيرمين من فرنسا متضامنة مع القضية الفلسطينية، إلى جميلة المحجوزة داخل إطار التي تنتهي دمعاتها إلى درر في النهاية تحفظها العصافير، إلى الجارة التي تعمل طوال الليل وراء ماكينة الخياطة في البناية المقابلة.
 
وأحمد الذي ظل يصارع طوال السرد الروائي لكتابة رواية صديقه الفنان سمعان، ينتهي به المطاف إلى كتابة سيرته الشخصية ومعاناته الصامتة مع العزلة والخيبة والتشبث بالأمل الصغير في شباب اختلفت سبله النضالية عن جيله. فقد عرفنا الكاتب الافتراضي (أحمد أبو خالد) عن تفاصيل يومياته في مدينة لا هي مستقلة ولا هي محتلة، لكن مسيجة دوما. عن فقده لزوجته جميله وارتباطه بابنته المغتربة في الخليج ياسمين، التي تختار أن تلد في رام الله، وكيف يعيش حالة التقاعد التي هي موت غير معلن. وكأنه ينبهنا بغمزة يترك لنا الكاتب فسحة تأويلها. كيف أن أطر الثورة ورموزها بدل أن يتحولوا إلى مرجع ومكان خبرة، يتركون لنهايات العمر الرذيل. يعودون إلى التراب من دون الاستفادة من تجاربهم الغنية، ويتركون يواجهون موتاً قاسياً مثل أحصنة المخيمات التي بمجرد شيخوختها تترك للموت في الوديان بالخصوص بعد استبدالها بسيارات القمامة الصغيرة التي تبرعت بها الأونوروا.
 
يركز الكاتب والصحافي أحمد الذي ينسى حياة صديقه الفنان ويتحدث عن شجنه وحميمياته مع نيرمين التي أصبحت يدها هي اليد الدافئة التي تؤنسه وتعطيه راحة نفسية يواجه بها يوميات العزلة الاحتلال. في الأخير، عندما يتم تطويق مكان العرس، وكل الدلالات تحيل إلى بحثهم عن نرمين التي كان لها دور تعبوي وتنظيمي كبير في انتفاضة القدس، تتجلى رغبة زواج أحمد من نيرمين التي هيأ لها يحيى يخلف منذ اللحظة التي أحس فيها أحمد بيدها الدافئة التي حسسته بأن الحياة لا تزال هنا. تشير هذه اللفتة الفنية إلى الرغبة القوية في الحياة والمقاومة، وفك عقدة التقاعد وأنه انتهى.
 
رواية اليد الدافئة هي، بهذا التوصيف، نشيد للحياة في عز صراعها مع الموت والزمن الذي يطحن كل شيء مخلفاً وراءه هياكل عظمية، باردة وحزناً قاسياً.

*القدس العربي

التعليقات