الإعلام الغازي.. تجريف الوعي الجمعي
الأحد, 05 أغسطس, 2018 - 09:55 صباحاً

في عصر ما بعد الحقيقة يبرز الإعلام باعتباره أهم أدوات الصراعات الدولية الماثلة. في هذا العصر المأزوم بالنفاق السياسي، تبدو الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام مقارنة بالشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية. عصر ما بعد الحقيقة، هو عصر يحل فيه الكذب محل الصدق، والعاطفة محل الحقيقة، والتحليل الشخصي محل المعلومة، والرأي الواحد محل الآراء المتعددة.
 
 ويتم التوظيف السياسي المنفلت لوسائل الإعلام في إطار ما يعرف في الدراسات الإعلامية بنظرية دوامة الصمت Spiral of Silence Theory، التي تنطلق من فكرة أن وسائل الإعلام تمثل المصدر الأول للمعلومات في المجتمع وتعكس الرأي الشائع أو المُـجمع عليه، أي ما يتصوره الناس على أنه "الرأي السائد" في زمن معين تجاه قضية معينة. وتشير مُعطيات هذه النظرية إلى أنه كلما تبنّت وسائل الإعلام اتجاهاً ثابتاً ومتسقاً من إحدى القضايا لبعض الوقت، فإن الرأي العام يتحرك في اتجاه وسائل الإعلام نفسها. فمثلا، مدة اسـتمـرار لقـطة تلفزيونية هي التي تحدد أهمية حدث ما أو اتجاه ما في أذهان المشاهـدين، وليسـت الأهمية الفعلية للحدث، فوسائل الإعلام هي التي تضع جـدول الأعــمال وتوجيه الرأي العـام ربما قسرا -في حالة سوء النية- نحو وجهة بعينها.
 
 وبنظرة مثالية لا تبدو واقعية البتة، ينظر إلى النظام الإعلامي الليبرالي في إطار المسؤولية الاجتماعية باعتباره النظام الذي يوفر للفرد والمجتمع الحرية والديمقراطية في كل المجالات الممارسة. إلا أن مفهوم الحرية والديمقراطية في النظم الإعلامية المختلفة يبدو ذا طابع جدلي نتيجة للتفسيرات المختلفة له، واختلاف السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعمل في إطارها.
 
 على سبيل المثال تعرض مدير قناة الحرة الأسبق لاري ريجستر في بداياتها قبل نحو 15 عاما لانتقادات مباشرة من وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندوليزا رايس شخصيا "لأنه عمد إلى بث خطب شخصيات إسلامية مناوئة لأمريكا مثل حسن نصر الله ورئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية، وكذلك للطريقة التي غطى بها مؤتمر طهران الذي شكك في المحرقة النازية ضد اليهود، ولأنه أيضاً طلب من مذيعي الحرّة أن يضيفوا بعد كل إشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبارة "صلى الله عليه وسلم".
 
 وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أطلقت في فبراير 2004م قناة الحرة مستهدفة المنطقة العربية. وقالت صحيفة نيويورك الأمريكية إن الهدف وراء إطلاق هذه القناة أن تشكّل الرد الأمريكي "العادل والمتوازن" على قناة الجزيرة. واعتبرت الحرة أكثر المشاريع الإعلامية العالمية التي ترعاها الحكومة الأمريكية طموحا منذ انطلاق بث إذاعة "صـوت أمريكا" في العام 1942م. والحرة في رأي الكثيرين أنها مثلت احتلالا للعقل العربي بالتزامن مع الاحتلال العسكري الأمريكي للأرض العربية في العراق.
 
 حتى فرنسا شعرت بالحيف الإعلامي الأمريكي فقررت أن تنتفض وتنشأ وسائلها الخاصة التي تعبر عن سياساتها ورؤاها؛ فبعد الخطاب الذي أدلى به وزير الخارجية الفرنسية السابق دومينيك دوفيلبان في فبراير 2003م معارضاً فيه خطة واشنطن لغزو العراق، حيث قامت شبكات الإرسال الأمريكية باقتطاع أجزاء من بعض فقراته لأنها تضمنت تصفيقا داويا لمتابعيه تأييدا له. فقرر الوزير الفرنسي المجروح حينها دعم مشروع إعلامي جديد لتأسيس شبكة إعلامية عالمية باللغة الفرنسية.
 
 يقول المفكر الأمريكي الراحل إدوارد سعيد في مؤلفه عن "الموضوعية في الإعلام": "إنه من البديهي أن الاتهامات التي وجهت للإعلام العربي بشأن التغطية الأحادية يمكن أن توجه أيضا للإعلام الأمريكي". وجوهر حجة إدوارد سعيد هي أنه على الرغم من العدد الضخم للصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية والإذاعية وحرية التعبير، إلا أن الإعلام الأمريكي كله يلتزم بوجهة نظر معينة عندما يحلل السياسة الخارجية الأمريكية. ويؤكد إدوارد أنها مؤسسات تخدم وتروج لهوية الكيان الأمريكي، وهو العامل الأساسي الذي يقرر الشيء الذي يصبح خبرا وكيف يتعين تقديمه.
 
 
عن صحيفة الشرق القطرية

التعليقات