جمال خاشقجي: من أجل الحرية والعقلانية
الخميس, 11 أكتوبر, 2018 - 11:13 صباحاً

منذ خرج جمال من المملكة العربية السعودية في 2017 قاصدا لندن ثم الولايات المتحدة تحدثت معه عدة مرات، وكان آخر إتصال بيني وبينه في أواخر آب/اغسطس 2018، كان جمال في ذلك اليوم في الولايات المتحدة. في حوارنا الطويل أبدى أمله بأن تكون القيادة السعودية والأمير محمد بن سلمان قادرين على تطوير وتغيير العديد من المسارات الراهنة: كحرب اليمن وحصار قطر والموقف من الحريات. كان أمله، أثناء حوارنا، أن تستمع اليه القيادة السعودية وتستمع لمن يكتبون وينتقدون من المحبين لبلدهم والموالين لنظامه بعقل وتبصر.
 
جمال وجه إيجابي للشعب السعودي وللمملكة وذلك بسبب قوة حجته ودماثة خلقه وحضور شخصيته، وهو خير من فسر الواقع السياسي السعودي بكل تناقضاته وغموضه. كان في الجوهر مواليا لنظام بلاده دون تطابق وتهور، كان ناقدا لعدد من السياسات بلا تهويل. كان لسان حال خاشقجي في كل المراحل يقضي بضرورة تطوير المملكة العربية السعودية دون الاخلال بموازينها. لم يكن جمال معارضا، بل ناقدا حرا، هذا ما قاله لي في كل إتصال وقع بيننا منذ خروجه من السعودية في نيسان/ابريل 2017. في الجوهر كان خاشقجي صلبا وشجاعا في طرح أفكاره، لكنه كان لبقا ومرنا في التعبيرعن تلك الأفكار.
 
ولسوء حظ جمال، تغيرت السعودية باتجاهات متناقضة بسرعة تجاوزت كل التوقعات. أحاطت بها حروب ونزاعات بعضها لم يكن مسؤوليتها كحرب العراق وموجات التغير التي عمت العالم العربي في 2011 لكن بعضها نتج عن سياسات وقرارات وصفت من الكثير من الاطراف بالتسرع والمغالاة منذ 2015 كحرب اليمن وحصار قطر وازمة الحريري والتشدد ضد التغير والتيار الديمقراطي في الإقليم العربي، كما والتشدد في قضايا الحريات على الصعيد الداخلي. لهذا تأثر جمال، كما تأثر غيره من المفكرين والصحافيين والكتاب والمصلحين السعوديين والدعاة، بعضهم رفع صوته فأدخل السجن، وبعضهم نجح في الخروج من المملكة كما فعل جمال. لقد أزعج جمال أن يعتقل هذا الكم الكبير من أصدقائه ومعارفه من أقرب الأشخاص للنظام ومن أكثر الافراد والدعاة إعتدالا.
 
سألت جمال في حوارنا الأخير في نهاية آب/اغسطس 2018: «هل من تواصل بينك وبين النظام؟». قال لي بوضوح: «نعم تواصلت مع السفير السعودي في العاصمة الأمريكية( بحكم معرفة سابقة)، أردت ان أسوي وضعي مع الدولة بصفتي ناقدا يطرح صوتا متزنا وليس بصفتي معارضا دائما للنظام».
 
وأكمل جمال حديثه: «اريد ان أقنع النظام بأن صوتي لا يهدده ولا يضره، بل يساهم إيجابيا مع أصوات أخرى سعودية في تصويب الوضع نحو الإستقرار والعدالة». صمت قليلا ثم قال لي: «أريد بنفس الوقت ان أخفف من حالة الغربة بيني وبين الامير محمد بن سلمان، فأنا ناقد لعدد من السياسات التي تتناقض ورؤيته التي طرحها، وبنفس الوقت أزعجني كثيرا قيام الدولة بالتعرض لعائلتي التي لا ذنب لها فيما أكتب وذلك عن طريق منع سفر أولادي الإثنين في المملكة العربية السعودية». سألته: «هل تعرضوا لأذى». قال: «لا على الاطلاق، لكن منع السفر مؤشر سلبي». ثم بادرته بسـؤال: «ماذا حصل في العلاقة مع السفير في واشنطن».
 
أجاب: «لقد توقف الإتصال منذ مدة، لم أسمع منه أي رد». فبادرته: «عدم الرد مؤشر لعدم الرغبة، على الأغلب جاءته أوامر بعدم التواصل معك، ربما عليك أن تنسى فكرة التواصل مع السفارة لحين تغير الظروف التي أدت لخروجك من المملكة».
 
لقد بقي جمال للحظة الأخيرة لا يريد أن يقطع صلة الوصل مع نظامه ولا مع ولي العهد السعودي. في الجوهر لم يقدر جمال مدى توجس النظام من التأثير الذي يحظى به شخص مثله من حيث دوره في الواشنطن بوست وتأثيره الفعال والكبير في العاصمة الامريكية كما وفي الفضاء الإعلامي العربي والعالمي. لقد أصبح جمال في فترة وجيزة الشخصية السعودية المستقلة والعقلانية الأهم في العالم، ففي شخصه إجتمعت القيم الأخلاقية الملتزمة بحرية التعبير. هذا الوضع أعطى لجمال سلطة معنوية أحيطت بمحبة الكثير من السعوديين والخليجيين والعرب. هذه الجوانب حولت جمال لهدف.
 
لقد تغير الزمن، لم يعد خطف صحافي بارز كجمال أو قتله و إخفاؤه يمر مرور الكرام. فالضجة حول جمال في العالم كله وفي العاصمة الامريكية وفي تركيا وفي عوالم الغرب و العرب أكبر بكثير من كل التوقعات. إن خطف جمال والاساءة اليه جسديا (تعذيب) وإمكانية تصفيته وقتله لازالت تتفاعل، بل من المرجح أن تزداد هذه القضية تفاعلا في أوساط تركية وأمريكية وعربية وعالمية وإعلامية.
لا يعرف حتى اللحظة وضع نهائي حول كل الأبعاد التي ارتبطت بإختفاء وتصفية جمال خاشقجي. أحيانا يكون الإختفاء كما والسجن بل وحتى الغموض بوقع التغير، لكن الأخبار التي نشرت وسربت عن القتل والإعدام والتعذيب هي الاخرى من أسوأ ما خرج الى العلن في الأيام الاخيرة، كم شعرت بالانزعاج والألم لمجرد تفكيري بإمكانية وقوع هذا الظلم مع كاتب وصحافي التزم القلم ولم يؤذ أحدا في حياته. كم من بطل إختفى بفعل إجرامي لتتحول قصته لوقود لقصص أخرى ولمحاولات متكررة لنيل حريات وحقوق ثابتة.
 
لقد ذهب جمال ضحية روحه الطيبة واستقلالية تفكيره وحبه لوطنه وثقته بدولته ومؤسساتها وفوق كل شيء حبه للحرية. بل يمثل ذهابه بكل ثقة وسلام وتفاؤل لسفارة وقنصلية بلاده من أجل الحصول على أوراق رسمية، هي من حق كل مواطن، قمة في السعي لإثبات حسن النية ومد الخيوط الإيجابية.
 
هذه الحادثة أكبر من كل حادثة أخرى، ستمد النقاد و المعارضين بوقود جديد يشعل حرية الكلمة، ستخلق هذه الحادثة إصرارا مضاعفا بين النقاد والمعارضين على التماهي مع شجاعة جمال. ما وقع مع إختفاء جمال خاشقجي في القنصلية السعودية فتح بابا لن يغلق.
 
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

*نقلا عن القدس العربي 

التعليقات