سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط تعاني من "أزمة الشرعية"
- الأناضول الخميس, 22 فبراير, 2018 - 04:44 مساءً
سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط تعاني من

تعي النخبة الأمريكية "أزمة الشرعية" التي تعاني منها سياسات بلادها، وتأثيراتها السلبية على مكانة واشنطن في المحفل العالمي.
 
تناولت النخبة المثقفة في الولايات المتحدة هذه المسائل في الكثير من المقالات والتقارير التي نشرت اعتبارًا من عام 2008.
 
ترغب تلك النخبة، شأنها شأن بقية مواطني الولايات المتحدة، باستمرار أمريكا كقوة عظمى محافظة على تأثيرها في النظام العالمي، إلا أن وصول "دونالد ترامب" (نهاية 2016) إلى سدة الحكم في البيت الأبيض ساهم في تعزيز "أزمة الشرعية" بدلًا من تصحيح الوضع القائم.
 
وهنا يمكننا القول إن استلام ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، أضافت جدالات جديدة على الموجودة أصلاً في البلاد، والتي ما فتئت تتناول المكانة العالمية للولايات المتحدة ومدى مشروعية سياساتها.
 
في الواقع، كان لسياسات إدارة ترامب في الشرق الأوسط وما تحمله هذه المنطقة من تعقيدات وأبعاد اقتصادية ومعنوية، تأثيرات سلبية من نوع خاص على صورة الولايات المتحدة ومصداقيتها.
 
وبالنظر إلى سياسات إدارة ترامب في الشرق الأوسط، يمكننا تلمس مدى فشل تلك السياسات وكارثيتها من خلال ثلاثة أمثلة قريبة العهد.
 
المثال الأول هو الأزمة القطرية أو الخليجية، والثاني إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، أما الثالث فهو خروج إرهابيي داعش دون اشتباكات من الرقة وتسليمها إلى مليشيات "ب ي د/ ي ب ك"، ذراع تنظيم بي كا كا الإرهابي في سوريا، وفق ما كشفته شبكة بي بي سي البريطانية في تقرير لها بعنوان "السر القذر في الرقة" بتاريخ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017.
 
فبعد فترة قصيرة من ظهور صورة للرئيس ترامب والملك السعودي سلمان والرئيس المصري السيسي في غرفة مظلمة وهم يضعون يدهم على مجسم مضيء للكرة الأرضية، اشتعل فتيل الأزمة القطرية مع إعلان السعودية والإمارات فرض الحصار على قطر، لتبدأ معها فترة تحديد موازين القوى في الخليج العربي من جديد.
 
ومع اتخاذ واشنطن موقف متردد حيال الأزمة القطرية، يظهر مدى أحقية النقاشات الدائرة حول مصداقية السياسات الأمريكية آنفة الذكر.
 
فمن جهة أولى، اتهم ترامب قطر بدعم الإرهاب، معلنًا بذلك وقوفه إلى جانب الرياض، في حين أكد وزير خارجيته تيلرسون خلال زيارته قطر في نفس الوقت، على ضرورة تخفيف الحصار المفروض على قطر، وأن الحصار يعيق من محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
 
وفي النهاية أدت صفقة شراء قطر طائرات بقيمة 12 مليار دولار من الولايات المتحدة، إلى تخفيف التوتر الحاصل بن البلدين.
 
 
 ** هزيمة الولايات المتحدة في المحافل الدولية
 
لم تكتف الولايات المتحدة بترك أثر صادم على السعودية والإمارات فقط نتيجة التغيير السريع في موقفها، إنما تعدى ذلك لإجراء صهر ترامب ومستشاره الخاص "جارد كوشنر" برفقة مسؤول رفيع المستوى في الأمن الوطني "جيسون غرينبلات" جولة، كانت سرية في البداية وتم الإعلان عنها فيما بعد، شملت بالترتيب، قطر، والسعودية، وقطر مرة أخرى، والإمارات العربية المتحدة، والأردن، ومصر، وإسرائيل.
 
ووُصفت مساعي كوشنر وغرينبلات في إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي خلال الجولة، وإعلان ترامب فيما بعد القدس عاصمة لإسرائيل، بأنه صب الولايات المتحدة الزيت على النار المشتعلة أصلا في الشرق الأوسط.
 
ورغم توافق الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع معظم الدول الغربية وإسرائيل، إلا أن إعلان ترامب بخصوص القدس، لم يمنع عباس من إبداء معارضته الشديدة للقرار وتحديه لنظيره الأمريكي بهذا الشأن.
 
وشهدت المنطقة تطورات هامة للغاية، خلال الـ 6 أشهر اللاحقة لزيارة ترامب إلى المملكة العربية السعودية، أبرزها استدعاء الرئيس الفلسطيني إلى الرياض، ومن ثم توجه رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى الرياض أيضًا بذريعة أن حياته معرضة للخطر، ثم اعتقال 11 أميرًا سعوديًا بناء على تعليمات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، المعروف بصداقته الحميمة لكوشنر.
 
وردا على القرار الأحادي الجانب من قِبل ترامب بخصوص القدس، اتخذت 57 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي قرارًا موحدًا في اجتماع إسطنبول الذي انعقد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ومن ثم صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار ترامب في نفس الشهر، تبعه تهديد مندوبة الولايات المتحدة "نيكي هايلي" للدول التي عارضت القرار.
 
وربما تعد هذه الأحداث من أبرز التطورات التي تشير إلى هزيمة الولايات المتحدة في المحافل الدولية.
 
 
** اتفاقية "قذرة" في الرقة
 
أما المثال الثالث، فهو موقف الولايات المتحدة تجاه "ي ب ك"، حيث أوضحت باستمرار أن هذه الميليشيات ليست إرهابية، وذلك بالرغم من كونها الجناح المسلح لـ "ب ي د"، الذراع السوري لتنظيم بي كا كا الإرهابي، ثم أعلنت أنها ستتعاون معها في محاربة تنظيم داعش الإرهابي.
 
ولم تقتنع أنقرة بذريعة أمريكا بهذا الشأن على الإطلاق، بل تعدى ذلك، لتسود في الرأي العام التركي فكرة أن الولايات المتحدة تتحجج بمحاربة داعش لاستمرار وجودها العسكري في المنطقة.
 
وساهم تقرير شبكة بي بي سي في ترسيخ هذا الاعتقاد السائد لدى تركيا، حيث كشف التقرير عن اتفاق سري بين ميليشيات "ي ب ك" المنضوية تحت لواء قوات سوريا الديموقراطية "قسد"، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، ومن جهة أخرى تنظيم داعش الإرهابي.
 
وثق التقرير عملية تسليم داعش مدينة الرقة لميليشيات "ي ب ك"، وإجلاء إرهابيي التنظيم من المدينة دون إطلاق رصاصة واحدة.
 
ووصفت الشبكة البريطانية هذا الاتفاق بـ "القذر"، حيث خرج بموجبه قياديو داعش برفقة عائلاتهم وأسلحتهم وعتادهم الكامل من مدينة الرقة بشكل آمن ومريح.
 
ويعتبر هذا التقرير بمثابة تكذيب كامل لخطة واشنطن بخصوص تواجدها في المنطقة بهدف محاربة تنظيم داعش، ومثال عن فقدان سياساتها للشرعية.
 
وأخلفت الولايات المتحدة بوعودها التي قطعتها على تركيا، كما أرسلت إلى "ي ب ك" حوالي 4 آلاف شاحنة من السلاح والذخيرة والأسلحة الثقيلة، وأعلنت أنها ستشكل جيشًا قوامه 30 ألف مقاتل لحماية الحدود، ورفعت من وتيرة دعمها لميليشيات "ي ب ك" في منبج، بعدما صرَّحت سابقًا بأنها ستسحب تلك القوات من المدينة.
 
جميع هذه التطورات أدت إلى نفاذ صبر تركيا، التي أطلقت بدورها عملية غصن الزيتون في منطقة عفرين.
 
تمتلك الولايات المتحدة اليوم 10 قواعد عسكرية في شمال سوريا، وهي بحاجة ماسة إلى كل من قواعد أضنة وإنجيرليك ودياربكر التركية، وفي هذا الإطار أجرى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون زيارة إلى تركيا لإيجاد سبل للتفاهم بهذا الخصوص، بعد أن أدركت واشنطن أنها معرضة لخطر فقدان تركيا بسبب تركيزها على مصالح أحادية قصيرة الأمد.
 
وقبيل زيارته إلى تركيا، توجه تيلرسون إلى لبنان حيث التقى هناك بالرئيس ميشال عون في لقاء وُصف بأنه خرج عن الأعراف الدبلوماسية، إذ جرى استقباله في مستويات دنيا، كما جلس على كرسي منخفض، ولم تتضمن قاعة الاجتماع العلم الأمريكي.
 
 
 
** عجز أمريكا عن إيجاد رؤية خاصة بالمنطقة
 
هناك أسباب عديدة وراء تراجع صورة واشنطن في منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، أهمها، الإنفاق العسكري الذي تجريه بهدف استمرار وجودها في مناطق عديدة حول العالم بهدف الحفاظ على موقعها كقوة عظمى، وتأثير هذا الإنفاق سلبًا على الاقتصاد الأمريكي.
 
من الواضح أن الولايات المتحدة تتعرض لأزمة إدارية كبرى، لم تشهد لها مثيل من قبل، إذ نشبت خلافات بين ترامب وعدد من المؤسسات الحكومية في بلاده، يأتي في مقدمتها مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي آي"، فضلا عن مشاكل مع وسائل الإعلام، وخلافات بين الكونغرس ومجلس الشيوخ الأمريكي.
 
وتعتبر جميع هذه الأحداث، من أبرز الأسباب التي أدت إلى تراجع فعالية السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
 
ففي الوقت الذي تضطر فيه واشنطن للتعامل مع مشاكلها الداخلية، تقف عاجزة عن إيجاد استراتيجية مناسبة للمنطقة، والأسوأ من ذلك أنها تزيد من وهج النيران المتقدة في المنطقة، كما أنها تفتعل أزمات جديدة مثل أزمة قطر.
 
وبخصوص سؤال "ما هو الطريق الذي يجب على تركيا اتباعه في علاقاتها مع الولايات المتحدة في ظل حكم ترامب؟"، فإن أفضل إجابة تكمن في ما تفعله تركيا حاليا، وهو الاعتماد على قوتها الذاتية، وإعطاء الأولوية للدبلوماسية في إيجاد حلول للأزمات، وتنفيذ عمليات عسكرية مشروعة بموجب القوانين والأعراف الدولية.
 
وفي حال لم تتمكن أنقرة وواشنطن من إيجاد حل وسط يرضي الطرفين، فإن لدى الثانية بعض الأوراق التي قد تستخدمها ضد تركيا، لكن يجب ألا ننسى أن موقع تركيا والقواعد العسكرية على أراضيها تحمل أهمية مصيرية بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة مع اشتداد وتيرة تنافسها مع روسيا في سوريا هذه الأيام، لدرجة تجعل من صلاحية الأوراق التي بين يدي أمريكا غير سارية المفعول.
 
--------
 البروفسورة التركية أوزدن زينب أوكتاف، عضو الهيئة التدريسية في قسم العلاقات العامة بكلية العلوم السياسية في جامعة "إسطنبول مدنييت".


التعليقات